من البديهيات المعروفة أن أي تغيير أو احتجاج أو استخدام أو استبدال أو إصلاح أو ثورة لها، على المستوى الفلسفي، أسسها وشروط تحققها المادي والمعرفي.
والاحتجاجات التي عرفتها المجتمعات العربية وما زالت، لا تخرج عن منطق هذه البديهية. فهو مجتمع كان وما زال يعيش القواعد والقوانين المستندة إلى تصور للوجود يفرضه النظام الرأسمالي انطلاقا من المسلمة التالية: الكائنات البشرية صنفين بالطبيعة: دنيا وعليا، أو عبيد وأسياد وهي مسلمة نتجت عنها مشروعية تميز المجتمعات العربية بحب العبودية وتقبل الفقر وتدمير الذات...الخ وهي كلها مميزات بالطبيعة في إنسان المجتمعات تلك في نظر النظام الرأسمالي. كل الأحكام تلك المستندة إلى المسلمة السابقة الذكر قد عمل النظام الرأسمالي ذاك على تجذيرها في المجتمعات العربية معتمدا كافة الوسائل المشروعة وغير المشروعة من توجيه لتقنيات ومحتويات الفضائيات خصوصا منه الدور الخطير المسند القيام به إلى قناة الجزيرة القطرية ،ونوعية الثقافة المنشورة السلبية والكتب الظلامية والرجعية الهادفة قتل العقل والتنوير،والدبلوماسية المؤذبة عندما يتطلب الأمر ذلك، والتدخل العسكري عندما تفشل الدبلوماسية المؤذبة، وتكوين وتجييش فئات من خونة أوطانها وتكوينهم وتدريبهم لتنصيبهم وتسليمهم مسؤوليات هي في نهاية المطاف حماية لمصالح النظام الرأسمالي. لذا، فالمجتمعات العربية السابقة والراهنة هي مجتمعات متخلفة ومستغلة بأبشع الآليات؛ يشرف على ذلك نخبة من الخونة شكلت بدورها فئات من المرتزقة للعمل على تنفيذ مخططات النظام الرأسمالي الدكتاتوري. ولا يفوتنا هنا من أن نشير إلى أن المسلمة السابقة أفرزت كذلك نتيجة مهمة أخرى وهي حصول زرع جسم غريب عن المنطقة يتمثل في تأسيس دولة إسرائيل وحمايتها والدفاع عنها باعتبارها الدولة التي ستعمل على نشر الديمقراطية نظرا لطبيعة جنسها، وثانيا تكون بمثابة المبرر للتدخل في الشؤون الداخلية للمناطق العربية كلما اقتضت مصلحة النظام الرأسمالي الدكتاتوري ذلك.
إن كل هذه العوامل مجتمعة جعلت العالم العربي يعيش بشكل عبودي اعتبره العديد من سكانه حياة نعيم ورفاهية. لذا، كان من السهولة بمكان تعيين رؤساء وملوك دكتاتوريين واستو زار أشخاص خونة ومجرمين، أشرفوا، كل حسب منصبه ومن موقعه السلطوي، على الحفاظ علي شروط استمرارية النظام الرأسمالي الدكتاتوري في استغلال موارد الوطن المادية والبشرية من جهة، وشروط استمرار نهبهم هم بدورهم لجزء من تلك الموارد. هكذا تمادى الحكام العرب رؤساء وملوكا في الاستغلال الدكتاتوري لهذه المجتمعات بمباركة وحماية الأنظمة الرأسمالية الدكتاتورية الغربية.
في ظل هذا الوضع تبلدت الجماهير العربية زمنا معتبرة التبلد ذاك بمثابة نعمة من جهة، وقدر رباني لا يجب رفضه من جهة أخرى؛ فعاشت عيشة العبيد التي هي عيشة الحيوان. هذا الوضع اللاإنساني الذي عاشته هذه الجماهير العربية عرف بداية العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين انتفاضة ضد هذا الوضع المؤسف الذي لا يحترم أبسط مبادئ الإنسانية، انتفاضة طالبت فيها ب"رحيل" الرؤساء والملوك والحكومات وحل البرلمانات ومحاسبة الجميع ماديا على الخصوص. فكيف يمكن تفسير هذا الوضع الجديد؟ وما علاقته بالوضع القديم، وضع العبودية والاستغلال؟
ننطلق من الافتراض التالي: يخرج المجتمع ،أي مجتمع، من مرحلة اللاوجود كلما انتقل من عتبة درجة الهوية الدنيا إلى عتبة درجة الهوية القصوى للوجود-هنا. وفي هذا الإطار لابد من استحضار العلة المتمثلة في ما نسميه ب"الحدث-المفاجأة" الذي كلما حدث لا يحق مخالفته. ونحدد هذا المفهوم في كونه الحدوث والتعبير الفجائي عن الخلل الذي يصيب نظام العالم وبالتالي التنظيم المنطقي للعالم والذي يتم تأكيده بفعل التبديل الذي حصل في أحد مكونات اللاموجود؛ وبمعنى آخر، ف"الحدث -المفاجأة" لا "يكون" الكلام البسيط ، بقدر ما "يكون" أمرا يجب تنفيذه كمثال الأمر الماركسي المعروف:"يا عمال العالم اتحدوا". فانطلاقا من هذا الافتراض "يكون" ما نسميه ب"الجسم" الذي هو هنا مختلف مكونات المجتمع. انه الافتراض الذي تجتمع حوله كل أشكال التعدد الذي يلتزم بعملية نشر نتائج"الحدث-المفاجأة" الذي يسمح له الافتراض ذاك باتخاذ أشكال غيره للتغيير؛ علما بأن اللاموجود هو مع ذّلك المتعدد الذي يحتوي ذاتيا قوة الوجود الذي لا يمكن لعامل ما من العوامل تجاوزه أو عدم الاعتراف به كلما حصل به درجة هوية الوجود الأقصى؛ وهذا معناه إغناء الجسم أو المجتمع وبالتالي الانصهار في عملية اغناء العدالة. فعندما يكون بين درجة هوية المتعدد والافتراض السابق مساواة في الوجود تصبح للمتعدد ذاك قدرة الوجود ما دامت درجة هوية وجوده قد أصبحت درجة هوية قصوى؛ إنها علاقة متينة بينهما-اللاوجود والافتراض-؛ ومن هنا نقول إن كل متعدد يصبح متعددا مندمجا في عملية التغيير أو يصبح عنصرا من عناصر جسم هذا المجتمع كلما كانت علاقة درجة هويته بالافتراض "تكون" في المستوى الأقصى. وهكذا ، فالمناضل الذي انضم بلا حدود للمظاهرات والاحتجاجات في الشارع العربي والذي انطلق من الافتراض القائل ب"ضرورة تغيير السلطة"، يصبح مناضلا مندمجا في صيرورة العدالة. ودلالة ذلك تعني إمداد الجسم بكل القوة التي تسمح له بالتوحد بالافتراض باعتباره علامة "الحدث-المفاجأة" الذي أفرز الجسم؛ وبلغة أخرى نقول: عملية حدوث التغيير تقتضي بناء جسم جديد كلما توحد التعدد حول الافتراض بفعل العلاقة. وبما إن الافتراض هو مؤشر أو علامة قوة"الحدث-المفاجأة"، فالوضع ذاك يمكننا من القول بان التغيير كجسم جديد هو نتيجة اندماج نتائج"الحدث-المفاجأة" الذي خضع لدرجة هوية وجود القوة القصوى.
بناء على ما ورد أعلاه فالمنطق يقتضي إن يتحدد الموقف من هذا الجسم الجديد. وهنا نكون أمام ثلاث مواقف : الموقف الأول هو الاندماج في الجسم وبالتالي الإخلاص الفعال لكل ما يمكن من تغيير قوانين العالم؛ الموقف الثاني هو الموقف المحافظ:اعتبار كأن شيئا لم يحدث، بمعنى انه حتى إذا لم يحدث الحدث أو الانتفاضة، فلا شيء يكون قد تغير؛ وهذا موقف كلاسيكي ورجعي معروف يرفض التغيير باستمرار؛ أما الموقف الثالث فهو الموقف الذي يعادي كل تغيير؛ فهو يعتبر إن أي جسم جديد هو بمثابة اقتحام غريب وضار يجب تدميره ، فرفض بذلك كل ما هو جديد وما هو حداثي ويسمى بالموقف الظلامي؛ وسنرجع فيما بعد إلى توضيح هذه المواقف.
انطلاقا من التأطير ذاك،نطرح الأسئلة التالية: ما معنى المجتمع العربي؟ ما معنى الأنظمة العربية؟ ما معنى الانتفاضات العربية الراهنة؟ ماالرهانات والأفاق؟
لاشك إن المجتمعات العربية قد عرفت مراحل تاريخية طويلة من الجمود والتخلف بفعل عدد من العوامل –بالإمكان الرجوع إلى عدد من مؤلفاتنا التي شرحنا فيها العوامل تلك-. فأساليب الإنتاج التي أفرزت أنماطا سلطوية تتقاطع حول نظام الاستبداد خلقت شروط التأسيس والتطوير والتعميق لبناء شخصية مجتمعية عربية متخلفة ومخلفة تتمثل في رفض أدبيات النهضة والتنوير والكرامة الإنسانية لصالح الدفاع عن الجمود والدونية وتقديس الأسياد واستحضار الأساطير والخرافات ومعاداة التنمية والتقدم؛ وبلغة أكثر دقة نقول انها تقوقعت على نفسها داخل دائرة درجة هوية الوجود الأدنى؛ وهي في كل هذا محكومة كذلك بعوامل سيكولوجية متمثلة في الكبت بمختلف أشكاله والجنسي منه خاصة. هذه بشكل مختصر هي مكونات عقلية المجتمع العربي التي عمل على خلقها وتعميقها الاستعمار بمختلف أشكاله؛ استعمار استغلها واستثمرها بشكل جعل هذا المجتمع يقبل وصايته عليه باعتبارها وصاية مشروعة؛ هكذا فالتمسلكات والعلاقات بين مكونات هذا المجتمع لا تخرج عن كونها علاقات تتميز بتقديس المتسلط وقبول الدونية والعبودية والتواكل والقدر والأبوية وغياب الخلق والإبداع ، بل معاداته.
هذا الوضع أفرز ،بطبيعة الحال، أنظمة دكتاتورية تمارس كل أشكال الاستبداد على مجتمعها معتمدة آليات ومؤسسات قمعية تمرست في كيفية إتقان القمع بالشكل المسمى بالمشروع؛ وقد عمل الاستعمار الخارجي على تأسيس تلك الآليات والمؤسسات بتقديم التكوين والدعم والاستشارة وأشكال التنفيذ والتكوين المستمر لحماية مصالح النظام الرأسمالي وممارسة الحصار المؤذب على المجتمعات تلك لتبقى قانعة ومقتنعة بالسجن المحدد لها.
إذن لعب النظام الرأسمالي الدكتاتوري ممثلا بالولايات المتحدة الأمريكية وانجلترا وفرنسا وألمانيا الدور الأساس الذي جعل من المجتمعات العربية مجتمعات "تكون" في درجة الهوية الدنيا من الوجود أو بلغة فلسفة الرياضيات الدرجة الصفر من الوجود. هذا الوضع من الوجود الذي فرضه الغرب الرأسمالي ممثلا بالدول السابقة الذكر على المجتمعات العربية يعني سلب هذه الأخيرة حقها في درجة الهوية القصوى وهو السلب الذي تحول إيجابا عند الكلام عن درجة هوية الوجود الغربي. فبدهيا، كل المجتمعات البشرية تتمتع بحق قانون الخروج من اللاوجود إلى الوجود-هنا في صورته القصوى في الزمن التي لن تفرز سوى الانطلاقة الايجابية للموجود،انطلاقة بناء الذات والإبداع وتحمل المسؤولية واحترام أشكال الوجود والموجودات. هذه هي الطريق التي خسرتها المجتمعات العربية أو بدقة أكثر أرغمها الغرب على عدم امتلاكها وتملكها لها،لتأخذ طريقا آخر هي طريق الانغلاق والتقديس والخضوع والدونية والانتهازية والوصولية ونبذ المسؤولية وعدم الاعتراف بحق الذات ولا بالحق في الوجود بمختلف أشكاله. لذا نقول إن هذه المجتمعات العربية هي مجتمعات فقدت وعيها منذ مدة بفعل نكرانها لحقوقها الطبيعية والوضعية فحادت بذلك عن الطريق الصحيح لتبقى مسجونة الطريق الغير الصحيح . وهنا تطرح مأساة وجود هذه المجتمعات العربية؛ فمن ناحية أرغمت منذ نقطة البداية على السير في الطريق الخاطئ بفعل قوة النظام الرأسمالي الدكتاتوري بمختلف أشكاله والمتمثل اليوم في الولايات المتحدة الأمريكية وانجلترا وفرنسا وألمانيا وهى الدول التي تتحمل مسؤولية توجيه هذه المجتمعات العربية في اتجاه غير الاتجاه الصحيح؛ ومن ناحية ثانية تم منعها من اختيار الطريق الصائب الذي تريد، فكانت الدول الرأسمالية الدكتاتورية الكبرى الأربعة السابقة الذكر هي التي مارست عليها الوصاية، فحلت محلها في عملية الاختيار لاعتبار أنها مجتمعات قاصرة؛ ومن ناحية ثالثة، وبناء على ما سبق، فقد فقدت حريتها لتبقى مسجونة في دائرة العبودية التي هي درجة هوية الوجود الأدنى؛ لذا، نجدها مجتمعات لا تفكر قط في امتلاك الحرية التي هي، في نظرها، "تكون" مقتصرة غلي الأسياد. فالفقير والضعيف والعبد لاحق لهم في الحرية وهو وضع طبيعي والهي حسب تصور هذه المجتمعات؛ فالذات الإلهية هي التي تعطي إذا أرادت، وتأخذ وترفض إذا أرادت ؛ وما الرئيس أو الملك أو الدول الرأسمالية الدكتاتورية الأربعة الكبرى ليست سوى منفذ لما تأمر به الشرائع الدينية الإلهية. إنها الفئات الدكتاتورية التي تمكنت، بفعل عوامل كثيرة، من الاستحواذ المشرعن على مفهوم الحرية كملكية خاصة.
إن مفهوم الوصاية الذي تمارسه الدول الرأسمالية الدكتاتورية الكبرى الأربعة أي الولايات المتحدة الأمريكية وانجلترا وفرنسا وألمانيا ومن خلال الرؤساء والملوك الدكتاتوريين العرب والمتمثل في فرض الاتجاه والاختيار وسلب المجتمعات تلك مفهوم الحرية، هي بالكاد مجتمعات لم تعد تعرف معنى المسؤولية، لا تجاه ذاتها ولا تجاه غيرها من الكائنات البشرية والحيوانية والنباتية؛ ومعلوم أن كل المجتمعات التي تفتقر المسؤولية هي مجتمعات توجد في درجة الهوية الدنيا من الوجود وهو وضع لا يميزها كثيرا عن المجتمعات الحيوانية.
إن نهاية القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين هي مرحلة أزمة أخرى من أزمات النظام الرأسمالي المتمثلة خصوصا في الأزمة المالية التي هزت صلاحيات كل النظريات الرأسمالية في الموضوع خاصة في الدول الرأسمالية الدكتاتورية الكبرى الأربعة وما ترتب على ذلك من نتائج لحقت بكل المجالات؛ بمعنى آخر، يوجد المنطق الداخلي للنظام العولمي الرأسمالي في أزمة خانقة تهدد وجوده، فكان لابد له من البحث عن مخرج من الأزمة خصوصا وأن قواه الجماهيرية اليوم قد تهدده، وهذا ما أعلن عنه بعض المفكرين الفرنسيين اليوم، برفع شعار: إما "ارحل" والمقصود هنا الرئيس ساركوزي ؛ وإما "ارحلوا" والمقصود هنا الرئيس والحكومة والبرلمان.هذا الوضع الذي أصبح يهدد النظام الرأسمالي الدكتاتوري وخاصة منه دكتاتورية الدول الكبرى الأربع هو ما جعل توجهاتهم ومراكز أبحاثهم وخبرائهم تركز، كمخرج، علي إعادة النظر في العلاقة بدول الجنوب باعتبارها دولا جامدة وذات أنظمة سياسية أصبحت قديمة ومعرقلة وعاجزة عن مسايرة إيقاع وسرعة وحاجيات النظام العولمي الرأسمالي الدكتاتوري. لذا، فقد تضمن جدول الأعمال إعادة النظر في مكونات دول الجنوب من رؤساء وملوك وحكومات وبرلمانات وأحزاب سياسية وأنظمة مع استحضار عمليات التفضيل. وقد تم التركيز على مناطق الدول العربية بكل من الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وجزء من القارة الآسيوية؛ أما باقي دول الجنوب فقد جدولتها إلى حينها.
والعلة في التركيز على هذه الدول العربية ترجع إلى كونها على المستوى الجيو-سياسي والاقتصادي هي دول إستراتيجية؛ فمن ناحية هي معبر وممر إلى ارويا وآسيا. ولا يخفى على أحد أهمية هذه المواقع في استغلال الموارد الطبيعية الغنية في آسيا والشرق الأوسط وشمال إفريقيا؛ لذا،نسجل تواجد القواعد العسكرية للدول الرأسمالية الدكتاتورية الغربية الكبرى الاربع وخاصة منها الأمريكية، في هذه المناطق. ولا شك أن أهم هذه الموارد الطبيعية يتمثل في طاقة النفط الذي تعتبر المناطق المذكورة غنية به. إنه العمود الفقري للخروج من هذه الأزمة؛ لذا، فالتحكم فيه، بالنسبة لهذه الدول الرأسمالية الأربع الكبرى هي مسألة حياة أو موت ومن ناحية أخرى، فامتلاك هذه المنطقة الغنية، فرض على النظام الرأسمالي الدكتاتوري زرع جسم جديد في المنطقة هو إسرائيل كما رأينا. ولأجل الحصول على تلك الامتيازات منذ الاستقلال الشكلي لدول هذه المناطق، قاموا بتنصيب رؤساء وملوك على رأسها على أساس تنفيذ مخططات وبرامج جداول أعمال النظام الرأسمالي الدكتاتوري؛ فكان من الطبيعي أن تكون هذه الأنظمة أنظمة دكتاتورية مرجعيتها الرأسمالية الدكتاتورية مع استحضار الاستثناء. هكذا شرع الرئيس أو الملك على السواء في ممارسة الدكتاتورية معتمدا مختلف المؤسسات، من عسكرية ودينية وقانونية وتعليمية وأمنية ومخابراتية واقتصادية واجتماعية وإعلامية؛ فانتشر بذلك في كل مناطق المجتمع الرعب والخوف والطاعة والعبودية. في ظل هذا المناخ، تمكن النظام الرأسمالي الدكتاتوري من السيطرة على الموارد الطبيعية التي أهمها النفط فاستغلها بالشكل والطريقة التي أراد. إذن نحن أمام رأسمالية دكتاتورية غربية كبرى عملت على خلق وحماية دكتاتورية عربية نسميها ب"الصغرى" التي لها حق ملكية هذه الموارد، ومن جهة أخرى لدينا شعوبا ضعيفة خائفة مذعورة تسبح وتحمد باسم الرئيس أو الملك وإلا مآلها السجن أو الإعدام.
وخلال العقد الأخير من القرن العشرين والعقد الأول من القرن الواحد والعشرين، عرف النظام الرأسمالي الدكتاتوري أزمة جديدة تمثلت في الأزمة المالية العالمية التي قلنا أنها تهدد اليوم مآل الدول الرأسمالية الدكتاتورية خصوصا منها الكبرى كالولايات المتحدة الأمريكية وانجلترا وفرنسا وألمانيا. قوة هذه الأزمة، جعلت الرأسمالية الدكتاتورية تأخذ قرار تدعيم الاحتجاجات التي تعرفها المناطق العربية للتخلص من العديد من الرؤساء والملوك العرب والاحتفاظ ببعضهم لأن المنطق الداخلي للنظام الرأسمالي الدكتاتوري اقتضى ذلك.
لقد سئمت الجماهير العربية من طغيان رؤسائها وملوكها وحكوماتها وبرلماناتها الذين حملتهم مسؤولية تدهور المستويات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية؛فبدأت الانتفاضات التي قادها شباب ومناضلون يساريون تحولوا من مستوى درجة هوية الوجود الأدنى والوقوف على عتبة درجة هوية الوجود الأعلى فانطلقت الاحتجاجات والمسيرات عازمة على تحقيق الانتقال ذاك؛ وتلك النقلة التي لازالت لم تكتمل قد انطلقت من تونس إلى مصر فبقية الدول العربية مطالبة الأنظمة والحكومات والبرلمانات بالرحيل فالمحاسبة ؛. وقد كان الشباب هو الذي يقوم بتنظيم والإشراف على الانتفاضة من داخل غرفة العمليات. وفي كل ساحة من ساحات في كل بلد كانت الشعارات متشابهة: الرحيل والمحاسبة وتغيير الدستور. إنها عبارات جميلة لأن الشباب ذاك يعبر من خلالها على الرغبة بتحقيق قطيعة مع الأنظمة السابقة للتأسيس لنهضة عربية جديدة على المستويات الفلسفية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية والمعرفية خصوصا منها التعليمية؛ نهضة يجب أن تتميز بالعدالة والمساواة والتوزيع السليم لموارد الدولة واحترام كرامة الإنسان. ولاشك أن هذه الحركية الشبابية ونجاحها الكبير في الإطاحة برموز الدكتاتورية مارس أثره على الساحة والوعي العربي فأصبحنا أمام لغة جديدة ومفاهيم جديدة ومواضيع جديدة كان العقل العربي الدكتاتوري المدعم من قبل العقل الدكتاتوري الرأسمالي الأكبر لا يؤمن بشرعيتها ولا حتى بطرحها.
قلنا أن هذه النقلة ما زالت لم تكتمل لنسميها "ثورة"؛ فما زالت مكونات صيرورتها ومآل توجهاتها لم يتضح بعد؛ فالنقلة تقتضي مرحلة نوعية من الصراع لتتمكن من إنجاز مهامها لأن النقيض الذي هو البنية الدكتاتورية له مناعته وتقنيات تنظيمه وطبيعة شبكات علاقاته مع النظام الرأسمالي الدكتاتوري عامة والرأسمالي الدكتاتوري للدول الأربع الكبرى خاصة. فالصراع ذاك يتطلب الوعي بمكونات ودلالة الخصم الدكتاتوري بشكليه المحلي العربي والعالمي الرأسمالي؛ ولاشك أن آليات وتقنيات الصراع وصيرورتها ستكون لها كلمتها في تحديد شكل التجاوز أو النقلة؛ بمعنى آخر، فالأنظمة الرأسمالية الدكتاتورية الأربع الكبرى أي الولايات المتحدة الأمريكية وانجلترا وفرنسا وألمانيا منخرطة بشكل مؤذب ومرن في تحقيق التجاوز بل وضرورته نظرا لحاجيات وضرورات النظام الرأسمالي الدكتاتوري؛ لذا، فهي تساند شكلا حدوث هذه النهضة، ولكنها مصممة جوهريا على ضرورة توجيهها بالشكل الذي يخدم درجة هوية وجود مجتمعاتها. هكذا فالصراع بين العقل التحرري والعقل الدكتاتوري في منحييه المحلي العربي والرأسمالي الكبير ما زال ينتظر الحسم الذي لا نخفي على القارئ الكريم أن ذلك يعتمد بالأساس ميزان القوى بمختلف أشكاله؛ وعلى الرغم من كل ذلك ف"الحدث-الفجائي" "كان"، والتغيير انطلق في انتظار تدعيم ذلك على مستوى وعي هذه المجتمعات العربية لتكتسب مستوى عاليا من المناعة الذي لا يمكن أن "يكون" إلا إذا توفرت شروط نجاح تحقيق النهضة العربية وإلا ستبقى الدول تلك ضحية الديماغوجيا التي تدور في فلك النظام الرأسمالي الدكتاتوري.
ومن العراقيل التي تواجه صيرورة هذه الثورة التي لم تكتمل بعد خطر ما يسمى بمفهوم الردة؛ فمن مكونات النظام الدكتاتوري العربي هناك فئة يعتمدها النظام الرأسمالي الدكتاتوري خاصة الكبير منه تعلن ولاءها للانتفاضة وثوبتها وتنكرها للنظام الدكتاتوري المحلي المنهار بعد أن تكون قد فقدت كل الثقة في الحفاظ على مراكزها مع النظام المنهار لتعلن انتقالها إلى مرحلة الانضمام إلى انتفاضة الجماهير متهمة النظام الدكتاتوري الذي كانت جزء منه والذي استفادت ماديا واجتماعيا منه،بأنه نظام استبدادي وفاسد؛ وهكذا نجد الإعلان عن الاستقالات تلو الاستقالات احتجاجا على دكتاتورية النظام؛ بل هناك منهم من استثمر حتى البكاء المسرحي أمام الكاميرات ليضمن مكانته داخل النظام الذي هو في إطار التكوين من جهة، وثروته المادية الغير مشروعة من ناحية أخري ، و"يكون" عنصرا مستمرا لضمان حياة النظام الرأسمالي الدكتاتوري في التنظيم السلطوي والاقتصادي والاجتماعي الدكتاتوري قيد التكوين. وهنا السؤال الكبير حول مآل هذه الانتفاضة والذي لن نتناوله إلا بعد أن تكتمل المعطيات محددة في الزمن. لكن هذا لا يمنعنا من القول بأن المجتمعات العربية قد عرفت حراكا وتغييرا مهمين.
إن مختلف المسلكيات والمفاهيم المطروحة اليوم في الشارع هي بمثابة إبداع يتردد خلال وفي اليومي، بل وبمثابة بداية تأسيس لمجتمع بنقله من درجة هوية الوجود الأدنى إلى عتبة درجة هوية الوجود الأقصى. وهذا يقتضي ، وللمتابعة، أسلوبا جديدا ومنهجا جديدا من التفكير الفلسفي عامة ، والفلسفي السياسي خاصة بضرورة الانتقال من ثنائية الستينات والسبعينات المتمثلة في:" البنية/الاختلاف "إلى الثنائية الجديدة التي عبرت عن طموح الجماهير وغطت الشوارع العربية والمتمثلة في ثنائية:" الحياة/العدالة". لذا نقول أن انتفاضة الجماهير وخاصة الشباب منه قد أفرزت مشهدا سياسيا واجتماعيا جديدا؛ وبلغة جيل دولوز، نقول أنه العبور إلى السياسة. وفي هذه الحال فالوضع يقود الفلسفة حتما إلى ضرورة تحليل النظام الرأسمالي.
في هذا الإطار ومن خلال ما سبق يطرح السؤال:ما معنى انتفاضة الشباب؟ وهل هي بمثابة خلق وإبداع أم ماذا ؟ فكل المعطيات التي نتوفر عليها اليوم تعني أنها صيرورة، إنها الأسلوب الذي يتحول به وتتوحد به وفيه مكونات الصيرورة. وفي هذا يمكن أن يصح الكلام علي السواء عن الانتفاضة أو عن الثورة السلبية أو عن نصف الثورة أو عن الثورة؛فهذه الاحتمالات كلها قد تكون واردة. إلا أنه، وأمام الوضع العربي الحالي، فنحن أمام نظام عربي جديد من الإبداع ، إنه التجديد الذي تمت ولادته بصعوبة؛ وهذا يدل ، وبالملموس، على أن مخزون القيم الاجتماعية لا يستنفد قواه الذاتية ومعاييره الحية والحيوية التي تعمل وباستمرار ك"طاقة" لايمكن فصلها عن الفعل. بهذا الفعل الخلاق ذو المرجعية المادية "كانت" و "تكون" حركية واحتجاجات وانتفاضات هذه الشعوب العربية عامة والشبابية خاصة رافضة بذلك استمرارية التنميط وعدم احترام كرامة الإنسان مستخدمة ومركزة ورافعة شعار :"ارحل" وهو الفعل الذي تردد في مختلف الانتفاضات – بل أصبح يتردد اليوم حتى في أحد دول الرأسمالية الدكتاتورية الكبرى كفرنسا التي خاطب أحد مفكريها الرئيس ساركوزي ووزيري الداخلية والخارجية بفعل:"ارحلوا"؛ وقد تم بالفعل فيما بعد بقليل "رحيل" وزيري الداخلية والخارجية- إنه تمرد على دلالة الانضباط والتحكم كما أسس لها وطورتها أشكال الدكتاتوريات التي خضعت لها هذه المجتمعات العربية معتمدة في ذلك مفاهيم كالقانون والحقوق ...الخ في الوقت الذي نجد أن أهم مميزات المجتمعات هي الحياة لا التنميط والتجميد والتسليع.
لذا، ندعو لفلسفة سياسية عربية- وكونية- تقوم بانتقاد مفاهيم القانون ما دامت قوانين لا تقوم سوى بتجميد وتسليع حيوية المجتمعات العربية. إن عملية التغيير التي أعطى شرارتها الأولى مفهوم "الحدث-الفجائي" والتي تقودها هذه الشعوب هي نقيض لنظام المعايير والقيم التي سيطرت عليهم زمنا طويلا؛ إنه، حسب التحليل النفسي، رفض لمعايير وقيم الوضع المسمى ب"السوي" والذي هو، في حقيقته، وضع"مرضي". لذا، فالوضع "السوي" الصحيح لهذه المجتمعات العربية هو عندما تتمكن من التأسيس لفلسفة سياسية تحدد علم السياسة كعلم موضوعه
"حيوية المجتمعات" عوض العمل على تجميدها؛ ولكن ، وللتوضيح، فالعمل على توضيح دلالة علم السياسة من زاوية الفلسفة السياسية يقتضي منا حتما طرح العلاقة بين مكونات مجتمعاتنا، لفهم درجة ومستوى وجود الحيوية والإبداع المتمثلة في طبيعة العلاقة بين الأغلبية والأقلية. فلا شك أن الأغلبية من المجتمعات العربية هي أغلبية خاضعة للقوانين الاجتماعية التي هي، كما سبق أن قلنا، تدور في فلك الدكتاتوريتين: سواء الرأسمالية الغربية الكبرى أو المحلية العربية؛ لذا، فهي افتقرت إلى القدرة على الخروج من تلك الدائرة لتصبح قوة خلاقة ومبدعة؛ إلا أن تلك الحيوية تحملت مسؤوليتها قلة من مكونات المجتمع هي فئة الشباب خصوصا التي أبرزت للعالم أن لها قدرة التغيير؛ ومن هنا ضرورة انتباه الفلسفة عامة والفلسفة السياسية خاصة لدراسة طبيعة الأغلبية من جهة، والأقلية من جهة أخرى لتصل إلى رسم طبيعة العلاقة بينهما وبالتالي طبيعة النتيجة.
وإذا أردنا التوضيح أكثر لمحاولة فهم وتحليل هذه الانتفاضة المجتمعية العربية نري أن معنى ودلالة الوجود وبالتالي الحيوية يتم من خلال استحضارنا ثلاث فئات منخرطة في الانتفاضة وإن بدرجات؛ بمعنى أن المجتمع الراهن الذي يتظاهر اليوم في الشوارع يمكن تصنيفه إلى ثلاث فئات :الفئة المندمجة في التغيير والمخلصة له والتي تمثلها فئة الشباب وبعض الفاعلين المناضلين؛ والفئة الثانية هي الفئة الرجعية وهي الفئة التي تعمل دوما على امتصاص أهداف التغيير؛ أما الفئة الثالثة فهي الفئة الظلامية التي تعتبر أن أي جسم جديد هو بمثابة اقتحام ضار يجب تدميره؛ لذا، فتظاهرها في الشارع يهدف تدمير الحداثي لصالح الاصولي الثابت والجامد. هذا علما بأن الفئات الثلاث تتعاصر وتتواجد زمنيا في الشارع حاملة شعارات احتجاجية ومطالبة بالتغيير.
فبالنسبة للفئة الأولى، فئة الشباب والمناضلين والتي يمكن أن نطلق عليها أيضا اسم الفئة المخلصة، فهي منخرطة بشكل إيجابي في المطالبة بالتغيير لبناء مجتمع جديد بزمن جديد. أما الفئة الثانية فهي الفئة الرجعية التي تتظاهر لكن بمنظور المحافظة على الأشكال الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في شكلها التقليدي والمتمثل في النظام الرأسمالي والدموقراطية البرلمانية وبالتالي العمل على توجيه الانتفاضة في ذلك الاتجاه؛ وبلغة أخرى إنه الفاعل الديمقراطي البورجوازي الذي يحرص على ضمان استمرار هيمنته بمعنى أنه يؤمن بالاحتجاجات والانتفاضات ولكنه ينفي أن يكون لذلك فعالية ما دام العالم السابق يفرض ذاته؛ وهذا يدل على أنه يحتفظ، على الرغم من تواجده بالشارع، بالمسافة بينه وبين الحاضر السياسي الجديد. لكن ، على الرغم من كل ذلك، فهي فئة تستحضر مخاطر الجسم الجديد الذي هو هذه الانتفاضة فتبدأ سلطته بالإعلان عن الإصلاحات وذلك بإنشاء المجالس وإبرام التعاقدات والإعلان عن سياسات تسميها بالجديدة...الخ. لكن كل ذلك يبقى في إطار التنظيم المحافظ أي باستخدام واعتماد قوانين مرجعيته ومنظومته المحافظة لعرقلة انتشار قوة الانتفاضة وحتى إن انتشرت فتكون بقوة محدودة ومحلية. بناء على ذلك، فالدول الرأسمالية الغربية الدكتاتورية الكبرى الأربعة تكن العداء للفئة المخلصة الأولى لأن تصورها يهدد حاضرها ومستقبلها كدول رأسمالية دكتاتورية. لذا فهي تساند الفئة الرجعية العربية باعتبارها الفئة التي تنجز أعمالا لا تخرج عن دائرة المحافظة؛ وهذا ما يفسر لنا مراوغة ومكر هذه الفئة بالشارع العربي الراهن إنها، بلغة الآن باديو، الحاضر الذي يخفي الحاضر. أما الفئة الثالثة فهي الفئة الظلامية التي لا يعني تظاهرها في الشارع وحملها شعارات الانتفاضة سوى إيمانها بضرورة تدمير عملية التغيير، حتى في شكله الإصلاحي والرجعي؛ فالبديل الذي تقدمه هو عبارة عن جسم أو مجتمع وهمي تقوم باستثماره لمواجهة الجسم الجديد الذي هو التغيير البناء ن جسم وهمي تعتبره بمثابة الجسم الجوهري والأساسي الذي يتقبله الناس سلوكا وفكرا وعقيدة كالقول بالسلفية الإسلامية أو الأصولية الإسلامية أو الإمارة الإسلامية...الخ. إذن فمن أولويات الفئة الظلامية بمختلف فاعليها هو العمل على نشر مشروعية فكرة الجسم الوهمي وتدمير الحاضر الجديد بتبني حاضر غامض الذي هو الخلود؛ وبمعنى آخر ، فعندما يتم تدمير هذا التغيير البناء،نحصل على الحاضر الجوهري الأبدي والمطلق الذي هو الإسلام الأصولي .
ولا شك أن العلاقة بين الفئات الثلاث المتظاهرة في الشارع ضد الدكتاتورية هي التي ستحدد لنا تقريبا دلالة هذه المرحلة التاريخية سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا. فبالإمكان أن يقع التحالف بين الفئة الرجعية والفئة الظلامية ضد الفئة النقيض، الفئة المخلصة؛ ويمكن للفئة الداعية إلى التغيير البناء أن تتحالف مع الفئة الرجعية لمواجهة الفئة الظلامية؛ بل يمكن ،وبشكل انتحاري ومغامر، حدوث تحالف بين الفئة الداعية للتغيير البناء والفئة الظلامية. لنخلص إلى القول أن تتويج هذه التظاهرات والانتفاضات العربية لن يخرج عن الطبيعة الجدلية لميزان القوى بين الفئات العربية الثلاث، وبينهم وبين الدول الرأسمالية الغربية الدكتاتورية الأربعة الكبرى.
إذن الخلل الذي أصاب هذه المجتمعات وأشكال القمع والاضطهاد أفرز ردود فعل هذه الفئات، ردود فعل محسوبة وحسب درجات، كل فئة تستغل التظاهرات تلك حسب تصورها وإيديولوجيتها تجاه هذا الوضع الدكتاتوري الذي لم يعد بمقدور المجتمعات العربية بمختلف فئاتها تحمله.
وعموما نحن، في الشارع العربي اليوم، وبناء وانطلاقا من طبيعة التصورات نجد أنفسنا أمام فئتين: فئة ترفض وتعادي التغيير باعتباره نقيضا للمذهب المحافظ؛ وهنا تتقاطع الفئتين: الرجعية والظلامية والتي نسميها ب"الأغلبية"، والفئة المخلصة للتغيير والتي نسميها ب"الأقلية". بناء على هذا التمييز، يمكننا القول أن السلطة كقدرة على الضبط والمراقبة والقمع هو الفكر الذي تتبناه الأغلبية؛ وأن السياسة كقدرة على الحياة والإبداع والابتكار لأقلية تتميز بالظهور المفاحيء الذي تقود في الغالب الأكثرية على الإنظمام إليه نظرا للوضعية السيئة لأغلبها التي تعيشها في صمت. لذا التحمت نسبة كبيرة من الأكثرية بالأقلية التي هي الشباب وثلة من المناضلين، فقادت هذه الأخيرة الأولى نحو الوقوف على عتبة درجة هوية الوجود الأقصى الذي معناه التغيير ولا شيء غير التغيير؛ أو قل إنه انتقال من مستوى السلطة التي هي مختلف قوانين الضبط والجمود إلى مستوى أو مرحلة الصيرورة باعتبارها عملية تتضمن كثرة "تكون" كامنة. وفي هذا الاتجاه، لا يتحدد "كون " السياسة إلا عندما يقتضى الأمر تجاوز الوضع الذي تتبناه سلطة الدكتاتورية لصالح لحظة "الحدث- المفاجئ" الذي يأخذ أشكالا جديدة أخرى تتحدد قدراتها وإمكاناتها من الداخل بالصيرورة التي يقودها الشارع العربي اليوم وفق ما ترى فئة الشباب والمناضلين؛ صيرورة توجد في التاريخ في التاريخ العربي ولكنها ليست محتواة فيه وهو ما يحمل دلالة "الحدث-المفاجئ"، بمعنى أن هذا الأخير له قدرة الانفلات من قبضة التاريخ ليحدث ويحفز على الانخراط في التغيير. فهذا الانفلات أدهش كل النظم الدكتاتورية في العالم العربي ليزعزع أهم المفاهيم والقواعد والقوانين التي طالما اعتمدتها النظم الدكتاتورية تلك. لذا وجب القول أن التقاطع الذي حدث بين الأغلبية والأقلية هو تقاطع تكتيكي عبر عن نفسه في الشارع العربي الذي رفض، وبلغته العادية، استمرار السيطرة كقوله :"الشعب يريد إسقاط النظام" ،" عليك أمان عليك أمان لا حكومة لا برلمان"...الخ وبالتالي سعيهم إلى المطالبة برحيل الرئيس أو الملك رمزا سلطة الاستبداد والعبودية.
بناء على كل ما سبق، ما التوجه السياسي الذي نحبذ حدوثه لتتويج هذه الانتفاضة وبالشكل النوعي الذي يضمن تطور هذه المجتمعات العربية وتأمين العيش لها بإشراكها في اتخاذ كافة القرارات والإجراءات وفق ما تقتضيه حاجياتها؟ أو بلغة أكثر وضوحا: ما الذي يجب فعله لكي لا تحل السلطة محل السياسة؟
هذا يتطلب وبالدرجة الأولى من هذه الانتفاضة العربية تحديد موقفها من النظام الرأسمالي الذي يرفع شعار السوق الذي لا يمكن أن يتحقق إلا بشرط حصول الضبط والرقابة كآليتين لتقوية وحماية السوق ذاك؛ فالرأسمالية سوق مبني على خلق وإقامة العلاقات بين عناصر مختلفة وهو ما يتطلب عملية الضبط والمراقبة كآليتين لحصول التواصل. فلذا، فالانتفاضة العربية التي يقودها والشباب والمناضلون هي انتفاضة، حسب هذا التصور الرأسمالي، يجب أن لا تخرج عن إطار الضبط هذا حتى وإن اختلفت أشكال تنظيمها.
إن رغبة هذه الجماهير العربية العريضة في تحقيق التغيير، رغبة في الخروج من درجة هوية الصفر إلى درجة هوية الوجود الأقصى هو قرار ما زالت الجماهير العربية العريضة تلك تناضل من أجل تحقيقه بقيادة الشباب والمناضلين. إذن، فالتحليل المنطقي يقتضي منا القول إن هذا المجتمع العربي- وكافة المجتمعات البشرية- هو هو هذه الرغبات التي يتم تجميدها أحيانا وإحياؤها شكلا أحيانا أخرى، وتحيى ذاتيا أحيانا ثالثة أو قل أنها الحياة التي تجمد أو تفعل حسب حاجيات النظام الرأسمالي الدكتاتوري. فلا نندهش إذن إذا قلنا أن النظام ذاك قد جمد الرغبة تلك في عالمنا العربي لسنين طويلة بفعل وجوده الجيو-سياسي والاستراتيجي في العالم. فرغبة الجماهير العربية اليوم بقيادة الشباب والمناضلين دخول دائرة درجة الوجود الأقصى لا يجعلها ولن يجعلها أو يتركها في منأى عن مراقبة النظام الرأسمالي الدكتاتوري؛ وبمعنى آخر فالرأسمالية عامة، ورأسمالية الدول الدكتاتورية الكبرى الأربعة لن تقوم بقمع هذه الرغبات والانتفاضات الجماهيرية العربية بقدر ما أنها تقوم باحتضانها والعمل على تطويرها وتقويتها في اتجاه توظيفها لصالحها ؛ لذلك نجد أن هذا النظام يقترب أكثر فأكثر من هذه الصيرورة لأجل تحويلها واستثمارها لتقوية دكتاتورية السوق وبالتالي رأسمال الرأسمالية. وهذا يفسر لنا لماذا تتأسس الرأسمالية على الضبط والمراقبة كآليتان لإخماد صيرورة الانتفاضات والرغبات الخارجة عن دائرة الأغلبية لضبطها وتنظيمها كرغبات يجب أن تصبح عملية معززة ومدعمة لقوانين السوق الرأسمالي الدكتاتوري. وفي هذا الإطار تفهم دلالة مختلف المساعدات المالية التي تلوح بها الدول الرأسمالية الدكتاتورية خاصة منها الأربع الكبرى؛ فهي مساعدات تعمل، في حقيقتها على الربط بين الرغبات الجماهيرية العربية والرأسمال أو قل أنه تأطير للرغبات تلك. هذه هي دلالة السلطة الرأسمالية التي استغلت العالم العربي منذ سنين والتي ما زالت جاثمة عليه بفعل مختلف آلياتها المتجددة : فاللحظة، أي لحظة، تتطلب ، بالنسبة لها نظاما سلطويا مدروسا يشرف على، ويؤمن شروط الاستغلال والنهب ذاك وبأقل التكاليف: استغلال البترول والفوسفاط والغاز والحديد والبحار والأراضي الزراعية والحيوانات والنباتات والبشر...الخ.
بناء على ما سبق ، نؤكد على أن هناك اختلاف بين دلالة مفهوم السلطة ودلالة مفهوم السياسة ؛ وبلغة أخرى تعمل السياسة على تتويج الانتفاضات بالعمل على تحرير الرغبات من قيود القواعد والقوانين ، بل ومن المسلمات الرأسمالية؛ إنها نمط تفكيري يحفز على تشجيع إبداع هذه الشعوب بقيادة شبابها ومناضليها وتخليصها من أسر وسجون أنظمة السوق الرأسمالية؛ بهذا النهج تتمكن السياسة من خلق شروط الحياة البديلة.
بهذه الدلالات السابقة، نفهم الفلسفة السياسية الجديدة، فلسفة تعتمد مفهوم "الحدث-المفاجئ" والذي يسميه دولوز بفلسفة خلق وإبداع الحياة الذي تعبر عنه اليوم وبفعله الجماهير العربية الراهنة؛ وفي هذا رفض لأهم مسلمات ومبادئ نظام السوق الرأسمالي الدكتاتوري وإعطاء الأهمية لتحرير رغبة هذه الجماهير وتشجيع خلقها وآليات تغييرها. إن ما يعج به الشارع العربي اليوم، في مختلف أقطاره، هو شعارات التخلص من الأنظمة الدكتاتورية والتأسيس للنظام الذي يستجيب لمطالبه ويلبي حاجياته ما دام سيكون شريكا في بنائه ومسئولا عن ممارساته وحرا في إقالته ومحاسبته. إنه الانتقال من درجة دنيا في الوجود إلى درجة تستحق أن تعاش؛ وهذا هو ما تناضل من أجله الجماهير العربية اليوم في الشوارع. وهذا يقودنا إلى الفكرة الأساسية التالية:" الحدث-الفجائي" الذي يستمر في شكل صيرورات الحدث اليومي في الشوارع العربية هو العملية التي بها ستقاس مدى قوة وقدرة ونجاح رغبة هذه الجماهير. فنجاح "الحدث-الفجائي" معناه ولادة السياسة، وولادة السياسة معناه تحرير الرغبة التي هي هي الشعوب العربية، وتحرير الرغبة معناه تدمير النظام الرأسمالي الدكتاتوري الذي تقوده ،بالواضح أحيانا وبالمرموز أحيانا أخرى، الدول الرأسمالية الدكتاتورية الأربعة الكبرى: الولايات المتحدة الأمريكية وانجلترا وفرنسا وألمانيا ؛ ولنسمي منذ الآن هذه الدول ب"الآلهة الفاسدة" التي تعبث بحقوق وكرامة الإنسانية والحيوان والنبات في كل بقاع العالم.
محمد بوجنال
مفكر مغربي
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire