يعتبر عبد الله العروي من المفكرين ذوي التكوين الشمولي والرؤية الدقيقة المحكومة بتصور عقلاني ذو منطق داخلي صارم توجد مرجعيته في الواقع المجتمعي؛ إن حنكة هذا المفكر ودرايته الواسعة بقضايا المجتمعات عموما، والعربية خصوصا جعلت منه مفكرا يقظا ومبدعا وبذلك حظيت دراساته وأبحاثه بالتقدير عربيا وغربيا. يقول في حقه المفكر الكبير ماكسيم رودنسون في تقديمه لكتاب" الأيديولوجيا العربية المعاصرة" الطبعة الأولى العام 1970 الصفحة الخامسة :" ونظرا لأن عبد الله العروي ضليع، على حد سواء، بالتاريخ الأيديولوجي للعالم العربي ولاروبا ومطلع على طرائق التحليل التي صاغها العالم الحديث، ونظرا لأنه يحسن تقييمها دون اللجوء إلى ما يراه من ازدراء غير متفهم لذي أولئك الذين يريدون أن يخففوا من عناء دراستها ودون الرضوخ الذليل الذي يبديه أولئك الذين لا يحسنون السيطرة عليها، ولأنه منفتح وإيجابي إزاء كل ما يستحق انتباه رجل ذكي وحر، فقد أخضع أهم قضايا العالم الذي ينتسب إليه للتحليل الأكثر إنصافا وعقلانية".
بداية ما المقصود بالتاريخانية بشكل عام؟ إنها الموقف الذي يجعل من التاريخ المبدأ الأكبر لتفسير وتحليل الظواهر والأحداث الإنسانية استنادا إلى مجموع الشروط التاريخية؛ ويعرفها العروي بأنها السعي إلى الإحاطة بالواقع المجتمعي بما في ذلك وضعه الحالي بغية حل مشاكله التاريخية في التاريخ نفسه.
بناء على التحديد السابق الذكر نطرح السؤال: ما مفاد أطروحة التاريخانية كما يراها العروي؟ منذ البداية يؤكد العروي إبعاده المجال الفلسفي وتركيزه على مجال العمل التاريخي الذي يهدف بل وينطلق من ضرورات وحاجيات المجتمع العربي؛ وبلغة أخرى، يرى العروي أن المجتمع العربي يعيش ويواجه عددا من المشاكل والتحديات التي ليست وليدة اليوم، بل هي وليدة تراكمات برزت في أشكال اقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية منذ القرن التاسع عشر. وبطبيعة الحال، لمواجهة هذه المشاكل والتحديات، لا بد من البحث عن وسائل وأدوات كفيلة بتمكيننا من التغلب على عوائقنا المعرفية من جهة، وتنمية قدراتنا على الاستيعاب والإدراك والفهم. وهنا نكون بالضرورة أمام عملية لازمة ولا مندوحة عنها تتمثل فيما سماه عبد الله العروي ب"الوعي التاريخي". فإذا كان الغرب، في نظره، يعرف نفسه كتاريخ وتطور، فلا يعقل أن نواجهه نحن دون التعرف على ذواتنا بنفس الشاكلة في أفق تعميق وعينا التاريخاني؛ بل يضيف، ليؤكد أهمية ذلك، بأن المقاربة التاريخية هي أساس الأحكام التي يصدرها القانون الدولي أو التي تعتمد في سياسات الأمر الواقع أو في حل النزاعات الدولية. إن عجزنا ، في نظر مفكرنا، عن حل تلك المشاكل والقضايا راجع بالأساس إلى عجزنا عن فهم الآخر في التاريخ وبالتالي عجزنا عن بناء سياسة فعالة ومستجيبة لحاجيات مجتمعنا العربي-الإسلامي؛ النتيجة ، وباللزوم المنطقي، من كل هذا :الإخفاقات تلو الإخفاقات والأزمات تلو الأزمات.
وهكذا ، فقوة كتابات عبد الله العروي لا تظهر في تجسيد هذا "التأخر التاريخي" وحسب، بل وأيضا في تبنيه تصور ماركس التاريخاني: العلم الوحيد في مجال العلوم الإنسانية هو علم التاريخ. ويمكننا تقسيم كتابات العروي إلى قسمين: الكتابات التنظيرية التركيبية وتضم كلا من مؤلفات الأيديولوجية العربية المعاصرة، أزمة المثقفين العرب، العرب والفكر التاريخي، ثقافتنا في ضوء التاريخ؛ وكتابات تحليلية تعليمية متمثلة في مؤلفات: مفهوم الأيديولوجية، مفهوم الحرية، مفهوم الدولة، مفهوم العقل. قلنا أن التاريخانية التي طوعها العروي بالإغناء والتعديلات والإضافات هي أطروحة يرجع أصلها إلى هيجل وماركس؛ يقول هذا الأخير في مقدمة رأس المال( بالفرنسية) الطبعات الاجتماعية العام 1867 الصفحة 19:" حتى لو كان مجتمع ما قد وصل إلى كشف طريق القانون الطبيعي الذي يشرف على حركته...فلا يستطيع أن يتجاوز بطفرة أو يحطم بمراسيم مراحل نموه الطبيعي. إلا أن بإمكانه أن يختصر حقبة مخاضه ويلطف ألآم الولادة". وهذا ما أكد عليه عبد الله العروي نفسه في مجلة الوحدة العام 1986 الصفحة 149:" عند هيجل وكذلك ماركس تنزع التاريخانية إلى القول بأن الحقيقة تقوم في التاريخ؛ وهذه الحقيقة التي لها صفة الشمول والإطلاق لا تتمخض إلا عن التطور التاريخي المحايث لها وليس عالم غير العالم الذي نحن فيه". فتلك الكتابات التاريخانية، يقول العروي، قد ظهرت وتطورت بل وخضعت لانتقادات متنوعة في المجتمعات الغربية وفي ظل نموها الطبيعي فاستفادت من ذلك؛أما في دول الجنوب وهي دول متخلفة، فإن الدعوة فيها لتاريخانية خصوصية ستقابل بالفشل بمعنى أن تجاوز
"التخلف التاريخي" وتحرير صيرورة هذه المجتمعات لا يمكن أن يحصل إلا بفعل استثمار ثوابت التاريخانية المتمثلة في: 1- ثبات قواعد التطور التاريخي وبالتالي حتمية المراحل؛ 2- هذا التطور يأخذ اتجاها واحدا: من الماضي إلى المستقبل؛ 3- وحدة الثقافة باعتبارها ضرورة لازمة عن وحدة الجنس؛ 4- أهمية إيجابية المثقف في وبالتموقع السياسي.
هذه الثوابت محكومة ضمنا بإرادة العمل وإرادة النهضة وإرادة التحرر وإرادة التقدم وإرادة الترقي.إنها ثوابت سعى عبد الله العروي إلى تعميقها وتطويرها لمقاربة قضايا تلك المجتمعات المتأخرة تاريخيا مستثمرا في ذلك تجارب عالمية أهمها في نظره وأكثرها ضرورة التجربة اللبرالية الاروبية التي ليس للنخب السياسة من بديل سوى استيعاب وهضم وتمثل تاريخها وإنجازاتها وإنتاجاتها بهدف دخول العصر من جهة، وفهم الماركسية باعتبارها إفرازا لهذا النظام اللبرالي من جهة ثانية؛ وبصيغة أخرى يرى العروي أنه لا بديل للنخب السياسية في الدول المتأخرة تاريخيا، من اعتماد واستخدام أداة النقد الإيديولوجي لإمكان تحقيق تحديث العقل. لقد ظهر في العالم العربي بالفعل، يقول العروي، أجوبة تحكمها هذه الغايات، أجوبة أفرزت نوعا من الوعي بالذات (الفقيه، اللبرالي، التقني) إلا أنه وعي ناقص ومهزوم بسبب تجزيئه الفكر الغربي بفصل الجزء عن الكل ؛ فانتشر بذلك التزييف والجمود وانعدمت الفعالية، فكان وما زال الإخفاق تلو الإخفاق.
ويتابع العروي طرحه بالقول بأن لا سبيل لتجاوز هذا الوضع إلا بتبني الفكر التاريخاني ونشر الوعي التاريخاني وهي عملية لا يمكن حصولها إلا باللجوء إلى نظام فكري شمولي وهو الفكر الماركسي لأنه الوحيد الذي يمكننا من تمثل العالم اللبرالي الذي لم نعش مراحله المتتابعة ولم نتمثل بنيته الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية؛ هذه الماركسية سماها العروي ب" الماركسية التاريخانية" التي يرى أنها، نظرا لطبيعة تصورها ونظرا لطبيعة أصناف الهيمنة والتحديات التي يطرحها العصر، قد أصبحت خيارا ضروريا مستفيدا في ذلك من الدرس الألماني لما قبل 1848 الذي يربطه شبه كبير بالوضع الراهن للعالم العربي؛ درس يقول أن ألمانيا وروسيا المتخلفتان سياسيا عن فرنسا واقتصاديا عن انجلترا، جعلتا من اللبرالية الاروبية هدفهما السياسي، في حين عارض العالم العربي-الإسلامي ذلك بسبب" التأخر التاريخي" لوعي الفقيه واللبرالي والتقني الذين يمثلون تيارات ترفض أشياء لا تملكها ظانة أنها تملكها وتحتقر النظام اللبرالي دون أن تستوعبه فأدى كل ذلك إلى تعميق هوة التأخر التاريخي عوض العمل على ملئها وتجاوزها؛ إننا ، يقول العروي، في أمس الحاجة إلى استيعاب الثقافة البورجوازية دون اللجوء إلى تكوين طبقة بورجوازية ولا المرور بتلك المرحلة، مرحلة عصر الأنوار الاروبية.
هذا هو المعنى الدقيق لمفهوم النقد الأيديولوجي الذي لا يستطيع مثقف الجنوب ممارسته إلا بالالتجاء إلى نوع محدد من الماركسية هو ما أسماه ب"الماركسية الأيديولوجية" أو "الماركسية التاريخانية"؛ وتجدر الإشارة إلى أن العروي قد ميز بين نوعين من الماركسية: المركسية الأيديولوجية (ماركس الأيديولوجي) والماركسية العلمية (ماركس العلمي) مدافعا عن ماركس الأيديولوجي كما سبق القول ما دامت الظروف التي كتب فيها ماركس "الأيديولوجيا الألمانية" هي ظروف متشابهة لمشاكل وقضايا الدول المتخلفة تاريخيا؛ أما ماركس العلمي فأهميته تكمن في استجابته لحاجيات الدول المتقدمة مع العلم أنه سيبقى ممكنا استثمار ماركس الأيديولوجي كذلك إذا استدعى الواقع ذلك.
وبهذا نكون قد فهمنا أكثر تاريخانية عبد الله العروي؛ فإذا كانت هذه الأخيرة، سواء لذى هيجل أو ماركس، مرتبطة بفكرة أن الحقيقة توجد وتقوم في التاريخ في اتجاه تحقيق الشمولية، فإن العروي يعطي التاريخانية دلالة فرضتها بنية المجتمعات المتأخرة؛ وفي ذلك يقول أنه بما أن التاريخانية قد حفزت مفكري الغرب على الاهتمام بمجتمعاتهم وحضارتهم، فإنه هو أيضا قد أحالته على مجتمعه وتاريخه؛ وهذا التاريخ المحال إليه بالضبط هو التأخر التاريخي العربي الذي تتشكل بنيته من: الفكر اللاتاريخي،تخلف الذهنية، الفقر الأيديولوجي. ويقترح العروي بصدد ذلك الوضع الحل التالي: لا يمكن تجاوز التخلف الذهني والتاريخي إلا بفعل النقد الإيديولوجي العملي وهو السلوك القادر وحده على تحديث العقل العربي؛ وحمولة هذا المفهوم تعني أننا كبلدان هذا حالها الآن، محكوم عليها بإعادة إنتاج ما أنتجه الغرب وتكرار التجربة لكي نتمكن من استيعابها واكتسابها وفق الأهداف والغايات المرسومة. إن هذا السلوك أو هذا الموقف يتطلب ،حسب مفكرنا، تحمل المسؤولية ليس فقط على المستوى الحربي العسكري بل وعلى المستوى الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي. وبهذا يكون قد رد على منتقديه الذين أرجعوا إخفاقنا إلى كوننا تبنينا نفس الأهداف التي تبنتها أروبا.
لكن ما هي هذه الأهداف التي يتكلمون عنها بداية من عصر الأنوار عند فولتير، روسو...الخ؟ يجيب العروي بأنها الحرية، الديمقراطية، التقدم، تعميم التعليم، السيطرة على الطبيعة...الخ؛ فهل هذه الأهداف أهداف خاصة أم شمولية؟ إن هذا الخلط، في نظر عبد الله العروي، يرجع إلى الجهل بقضايا التاريخ والعقل والسياسة...الخ. ف"التاريخانية" إذن كما سبق القول، هي الإحاطة بواقعنا؛ والدعوة إلى تجاوز المراحل هي دعوة مشلولة؛ فالتجاوز الصحيح لا يمكن أن يحصل إلا عبر الاستيعاب وآلام الولادة كما قال ماركس. وكل هذا يحصل ويتم من خلال ما أسماه ب"التجربة التاريخية" التي يعني بها ضرورة توضيح العلاقات الجدلية بين طرفي المعادلة: الفكر والواقع لأنه لا وجود لفكر مستقل عن الواقع الاجتماعي ولا وجود لواقع اجتماعي غير متجسد في الفكر؛ ومن هنا فإن مفكرنا لا يميز على حد قوله بين دراسة ونقد الايدولوجيا ودراسة ونقد الواقع المجتمعي اللهم على مستوى المنهج. فالمجتمع بنية تتكون من أنظمة اقتصادية، من تجهيزات تحتية ، من انقسام طبقي، من سلوكات اجتماعية، من تصورات، من معتقدات...الخ وكل هذا متداخل فيما بينه.
قلنا أن العروي قد حدد تاريخانيته معتمدا بيئته المجتمعية وهي عملية تقودنا إلى طرح مفهوم آخر من مفاهيم تاريخانية عبد الله العروي وهو ما أسماه ب"الماركسية الموضوعية"؛ "موضوعية"لأنه، في نظره، بين الماركسية والمجتمع العربي هناك أهدافا مشتركة تتمثل في ضرورة جعل الفرد عنصرا منتجا وحرا وفاعلا ومتلائما بشكل عقلاني تاريخي مع مجتمعه؛ وهكذا ، فقد استنتج في نهاية المطاف أن ما أطلق عليه اسم"الماركسية الموضوعية" هو هو ما أسماه ب"التاريخانية".إذن إذا كانت تاريخانية عبد الله العروي هي ذلك الجهاز المفاهيمي وذاك هو تفسيرها للواقع، وإذا كان العالم قد عرف تغيرات عميقة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا فيما سمي ب"العولمة"، ألم تكن لهذه الأخيرة صدى داخل تاريخانية عبد الله العروي أجبرها على التكيف معها؟
لا شك أن "العولمة "كنظام رأسمالي عالمي قد تجاوزت اعتماد صرامة العقل لتطرح كبديل لذاك مبدأ "المرونة"، المرونة بين الدين والعقل أو التركيب بين الإيمان والعقل ؛ومن هنا نفهم مجمل الفلسفات الغربية الحالية كفلسفة هيدجر وديريدا وغيرهما.
وكما سنرى،فلم تنجو تاريخانية عبد الله العروي من هذه المرونة والتي تتخذ شكلا واضحا في عمله الأخير:"السنة والإصلاح". يتابع العروي في هذا المؤلف عمليات تفكيك المسلمات والمفاهيم والقواعد وبالتالي العلاقات والنتائج سواء بالنسبة لمقاربة موضوع السنة الإسلامية أو مواقف النظريات الغربية بصدد موضوع الإسلام محاولا إعادة بنائها اعتمادا على الأسطورة كأساس. وفي هذا ،كما سنرى، نسجل أن خطاب عبد الله العروي قد أصبح يتميز بالثنائية التالية: الزمنية والتاريخانية كما ورد في مختلف أعماله السابقة، واللازمنية واللاتاريخانية كما ورد في عمله الأخير:"السنة والإصلاح"؛ وبمعنى آخر، ففي تصوره الأخير طرح العروي السنة كوضع يرفض الزمن والتغيير وبالتالي عملها بشكل مستمر على احتواء الأحداث في نظامها الثابت الأزلي؛ في حين أن الزمن هو نقيض الوضع ذاك؛ وعموما، فبما أن السنة في نظره هي تحريف وتشويه للأصل الإسلامي الصافي، فقد سعى إلى العمل على تعريتها وتفكيكها ليعيد تركيبها من جديد. فهل نجح عبد الله العروي في مسعاه هذا؟ أو قل هل تمكن في كتابه السابق الذكر، من الانتقال فعلا من العقل الذي طالما دافع عنه وما زال إلى اللاعقل الذي رأى فيه الأزلية والثبات والإيمان؟ وهل الانتقال هذا هو استجابة ضرورية لشروط ومكونات بنية مجتمعية جديدة تسمى ب"العولمة"؟
لاشك أن العروي قد قام بتحليل الوضع العربي-الإسلامي في كل مؤلفاته وما استنتجه ليس سوى التخلف لذي السلفي أو القومي أو العلماني وهو الوضع الذي جعله يستدعي، كبديل لتحقيق النهضة زمن العولمة، الماضي القديم. وقد اعتمدت تاريخانيته،لأجل تحقيق ذلك، الدعوة إلى القراءة المباشرة للنص القرآني وكذا التجربة المحمدية ليصل إلى ما هو أعمق وأقدم منهما وهو الأصل والصفاء اللذان يقودان حتما، في نظره، إلى التعالي عن الذات التاريخية التي تمسكت بها بشكل أساسي تاريخانيته الماركسية. وهنا نسجل انتقاله من زمن تاريخانية أولى عجزت عن إخراج العرب من التخلف إلى تاريخانية أخرى،اقتضتها شروط بنية مجتمعية جديدة تسمى بالعولمة التي من أهم مميزاتها البحث عن الماضي الأصيل في اتجاه إيجاد صيغة تمكن، وهو ما حدث بالفعل، من التركيب بينه وبين العقل. والعروي في محاولته تلك يسعى إلى إبراز فكرة أن لا تناقض في عملية التركيب بين الأصل والحداثة وذاك بعد تفكيكه مفهوم السنة على جميع المستويات قصد الوصول إلى الإسلام في أصالته وصفائه دون الحاجة إلى تيار أو مذهب أو أي شكل من أشكال السنة، ما دامت، في نظره، هي العامل المعرقل لخروج العرب من تخلفهم ومنعهم من الانخراط في زمن الحداثة؛ فتحول الإسلام إلى سنة جعله دينا جامدا يحارب كل أشكال التقدم والاختلاف وبالتالي محاربة كل من العقل ورغبة الذات في الحياة؛ لذلك اعتبر المرحلة التي تلت المرحلة المحمدية بمثابة تشويه وتحريف وتجميد لفعالية وطاقة الإسلام، تجميدها في شكل ومضمون ما يسمى بالسنة مع الإشارة إلى أنه قد وسع من دلالة مفهوم السنة ليجعلها تشمل كل المجالات سواء منها الكلامية أو الفلسفية أو العلمية أو الصوفية أو الأدبية.
ومعلوم أن موقف العروي ذاك الرافض لشكل ومضمون السنة سيدعمه باقتراحه بديلا لها يتمثل في ما سماه ب"ما قبل السنة"؛ وهو في هذا ينح منحى ما بعد الحداثة التي أرادت التركيب بين العقل الحداثي والعقل الإيماني وهي العملية تلك التي ترى ما بعد الحداثة تلك –هيدجر ، ديريدا وغيرهما- الكفيلة باكتشاف الأصل للخروج من أزمة الحداثة. وفي هذا السياق الذي تجاوزت فيه العولمة مبدأ صرامة العقل لصالح مبدإ الليونة المتمثلة في استدعاء الأصل، أراد العروي نفسه أن يبتعد عن التفكير في موضوع التخلف عن دائرة، سواء الفكر العربي-الإسلامي أو الفكر الغربي، لأن التفكير ذاك الخاضع لصرامة العقل لن يمكننا من العثور على الحل السليم؛ لذا ، نادي بضرورة الرجوع إلى ما قبل السنة لإمكان تشخيصها التشخيص الصحيح وهو النهج الكفيل بمعرفة المرض وبالتالي العلاج السليم. والسؤال الذي ينتظره كل قارئ هو ما العلاقة بين التاريخانية الأولى، التاريخانية الماركسية، تاريخانية طموح تحقيق النهضة، وتاريخانية نهاية القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين؟ وبلغة أخرى ما وضع تاريخانية عبد الله العروي زمن العولمة؟
لقد كانت تاريخانية عبد الله العروي تتسم ، كما سبق القول، بالعقلانية والدعوة للواقعية واعتماد التكنولوجيا ونهج السياسة الحداثية، تاريخانية تهمش الماضي وتعتبره عاملا معرقلا لقيام النهضة العربية المتمثلة في الحداثة. وهنا وجه الاختلاف الكبير بينه وبين محمد عابد الجابري: فإذا كان الجابري يقول :فليمت الشعب لتحيى التقاليد والعادات، فإن العروي يقول: فلتمت التقاليد والعادات ليحيا الشعب. فالجابري يرى أن فهم مكونات العقل العربي توجب علينا استحضار التراث-الماضي- باعتباره منظومة تمكنت وحددت وسجنت العقل والوجدان العربيين بزمن ليس زمنهما؛ فتفكيك هذه البنية هو أساس فهم هذا العقل، وغياب ذلك معناه استمرار الانغلاق والتخلف. أما عبد الله العروي فيرى أن الماضي أو التراث لن يفيد لا الحاضر ولا المستقبل؛ فالاهتمام يجب أن ينصب على تسليح العقل بالآليات والأدوات العلمية والعقلانية لتمكينه من قوة تفكيك الواقع والقدرة على استشراف المستقبل. فدراسة التراث نهج غير مفيد لأن التراث قد مات؛ ومن أراد الاطلاع عليه فهو موجود فوق رفوف المكتبات.
أما في كتابه الأخير،" السنة والإصلاح"،يظهر لنا العروي بتاريخانية تنتقل من دائرة الحاضر والمستقبل إلى إحدى دوائر الماضي؛ وبمعنى آخر نقول أن العروي قد انتقل في كتابه هذا، زمن العولمة، من تاريخانية ذات أبعاد ماركسية إلى تاريخانية ذات أبعاد محافظة؛ وفي هذا الاتجاه لا أحد يمكنه أن ينكر مدى انتشار التيارات المحافظة زمن العولمة التي نذكر منها ما يهمنا وهو التيارات ما بعد الحداثية. لذا ، فمن الدعوة إلى القطيعة مع التراث، انتقل إلى عملية الحفر في ما وراء التاريخانية الماركسية للتأسيس لتاريخانية محافظة، تشبه نهج ما بعد الحداثيين. هكذا ،في نظره، فالدولة الإسلامية الصحيحة هي الدولة التي تعمل على تأسيس الواقع بناء على وعد النبي إبراهيم في الوقت الذي نجده في التاريخانية الماركسية يرى أن الدولة الإسلامية الصحيحة هي الدولة التي تتأسس بناء على وعي الشعوب وقواها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.لقد بني تاريخانيته، زمن العولمة، على الزمن الحكائي بدل الزمن المعيشي؛ بل نذهب إلى أبعد من ذلك حيث نجد في كتابه السابق الذكر تبنيه تعريف التيار المحافظ الما بعد حداثي الذي حدد الإنسان تحديدا جديدا حيث عرفه بالذاكرة عوض التعريف بالعقل.
إلا أن حنكة العروي لم تجعل منه، في تاريخانيته زمن العولمة، مفكرا تابعا فكرا ومنهجا بقدر ما أنه أكد على تميز تصوره بحيث أنه حددها في كونها تاريخانية محافظة تهدف طرح قضية أن مصدر الحضارة الغربية برمتها يرجع إلى الإسلام،لا إلى فكر اليونان القديمة والرومان؛ وبذلك تمكن من نزع فكرة التقديس اللاتاريخي عن تلك المرحلة التي اعتبرها الغرب وما زال، بمثابة المرحلة الخالصة من كل أشكال التشويه المرتبط بالشرق والتي سماها الغرب ذاك بالمرحلة الهللينية؛ وفي نفس الآن تمكن مفكرنا من التأسيس لمرحلة بديلة وأصيلة تسمى بالمرحلة الهللنستية التي اعتبرها مرحلة تقاطع وتلاقح الحضارتين: اليونانية والشرقية على أساس أن مصدر إبداع اليونان هو الشرق وليس العكس؛ فاستقلالية فكر هذا المفكر، وإن كانت لا تخرج عن ليونة مرحلة العولمة وتركيبها الهجين بين اللاعقل والعقل، إلا أنها تفرض نفسها في القول بمكانة الإسلام بسبب كونه الوريث الشرعي لصفاء الوعد الإبراهيمي والمرحلة الهللنستية بكل ما احتوته من عقلانية ركزت بشكل خاص على عامل الزمن؛ لذلك فالإسلام هو الدين الذي حث على استخدام العقل واحترام إنسانية الإنسان. هكذا إذن، تمكنت تاريخانية العروي الجديدة، زمن العولمة، من التأسيس لفكرة أن مصدر الحداثة وما قبل الحداثة على السواء هو الإسلام.
وإذا اعتمدنا أسلوب المقارنة مع التيار الما بعد الحداثي نجد أن هيدجر، على سبيل المثال، نادي بالعودة إلى الفلسفة ما قبل السقراطية لمعرفة الحقيقة الأصيلة للفلسفة والعلم أي تحديد عناصر المرحلة تلك كبديل لإخراج الحداثة من أزمتها؛ أما في كتاب السنة والإصلاح ، فقد نادي العروي بالعودة إلى ما قبل مختلف السنن الدينية وخاصة منها اليهودية والمسيحية أي العودة إلى وعد النبي إبراهيم الذي لم تفهمه الفهم الصحيح سوى الرسالة الإبراهيمية وليس غيرها بسبب عقلانيتها وفعاليتها؛ وفي هذا نقد للديانتين اليهودية والمسيحية باعتبارهما ديانتين تعاديان العقلانية لصالح اللاعقلانية؛ ليصل إلى التأكيد على أن حل أزمة الحداثة يكمن في العودة إلى الأصل أي إلى الإسلام باعتباره الرسالة التي ربطت بين المرحلتين: المرحلة الإبراهيمية والمرحلة الهللنستية. لذلك نجده انتقل من تاريخانية ماركسية إلى تاريخانية محافظة ليتمكن بالتالي من الانتقال من الزمن النسبي المتمثل في الزمن السني إلى الزمن الأزلي المشار إليه تحت رمز"الوعد الإبراهيمي"؛ لقد اعتبر هذا الأخير بمثابة اللحظة الإسلامية الأصيلة والمتخلصة من كل أشكال القراءات والتأويلات، اللحظة التي انطلاقا منها واعتمادا عليها نتمكن من التأسيس للهوية الإسلامية الحقيقية والمنفتحة على منجزات الحداثة والقادرة على دخول زمن العولمة بشكل إيجابي.
انطلاقا مما سبق، يرى العروي أن الحداثة البديلة هي الحداثة المنطلقة من المصدر الأصيل والصافي الذي هو الإسلام السابق ،بطبيعة الحال، على السنة. بهذا التصور، يقول العروي، يتم تفادي الصراع والاصطدام بين الأصل النقي الذي هو الإسلام والمنجزات البشرية التي تمثلها الحداثة. ومعلوم أن الأصيل، في نظره، يكون دائما نقيا وحاملا لقيمة الحرية واحترام إرادة الذات البشرية؛ ومنطقيا التحرر معناه الانفتاح على الابتكار والإبداع اللذين ليسا سوى الحداثة.
وعموما، فالعروي في كتابه الأخير-السنة والإصلاح- حاول بناء تاريخانيته المحافظة باستحضاره الدين الإسلامي الذي في حال تخليصه من الانحراف والجمود ستحقق المجتمعات العربية-الإسلامية نهضتها الحقيقية وفي نفس الآن إخراج الحداثة عامة من مختلف أزماتها؛ وقد سبق أن قلنا أن النهضة تلك من جهة وتجاوز أزمة الحداثة من جهة ثانية لن يتحقق إلا من خلال أهم مميزات منطق العولمة المتمثل في المصالحة بين الإيمان والعقل، أواللاعقل والعقل والذي يسميه البعض الآخر بالليونة. إلا أن التاريخانية المحافظة للعروي لم تنجح في إبراز كيفية القطع مع السنة. ولا أحد يمكنه أن ينكر أن عملية القطع تلك، زمن العولمة، لا يمكن إنجازها دون استحضار عملية الإشراك والمشاركة.لذا، فالعولمة تشترط، لحصول عملية القطع تلك، ضرورة حصول الإقتناع بالتشاور والحوار الديمقراطي بين المكونات المجتمعية لإمكان التأسيس للتعاقد ما دامت مختلف العلوم الدقيقة والإنسانية ترى باستحالة الفرد الواحد التأسيس لعملية القطع والبناء؛ فاستحضار المجتمع المدني والسياسي زمن العولمة عملية لا يمكن الاستغناء عنها ما دام الأساس والهدف هو التحقيق الفعلي للنهضة وكذا إكسابها المناعة اللازمة للتخلص من الأزمات. وقد ترجمت ذلك تاريخانيته الماركسية، وهي على حق في ذلك، أن الإنسان المحدد في الزمن بفعل شروط مجتمعه البنيوية، هو المؤسس والمغير والمطور والمعرقل لنشوء أو جمود أو تقهقر أو تطور النهضة وبالتالي الحداثة.
محمد بوجنال
مفكر مغربي
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire