في الوقت الراهن لا أحد قد أصبح يشك في كون أن العالم قد عرف انقلابا كبيرا. ولا أحد يشك في الهجومات الشرسة على الأنظمة والفكر الاشتراكي على المستوى العالمي الى حدود اعتبارهما أنظمة و فكرا اجراميين ،ولا أحد يشك بأن المرحلة عرفت استهتارا بكرامة الانسان ،ولا احد يشك في ان الزيادة من تفقير العالم أصبحت عملية مسلما بها ،ولاأحد يشك في أن هيئة الامم المتحدة قد أصبحت مظلة لممارسة العدوان على الدول النقيضة أو المسماة بالمارقة،ولا أحد يشك اليوم في أن معظم قادة الدول وخاصة منهم الدول العربية لا تربطهم علاقة حقوقية وقانونية بشعوبهم بقدر ما أن علاقاتهم تلك ليست سوى ترجمة لتوصيات وتوجهات ومصالح البورجوازية الرأسمالية العالمية الكبرى ،ولا أحد يشك اليوم في أن البقاء قد أصبح بالواضح والمرموز للأقوى ،ولا أحد يشك في أن معظم المهرجانات أصبحت تنظم بهدف تزكيةأشكال الميوعة ، ولا أحد يشك في إن النفاق قد أصبح رمز النجاح والمروءة ، ولا أحد يشك أن علم الحيل قد أصبح علما ذو اعتبار وتقدير. هذا الوضع تمت اعادة صناعته بحنكة كبيرة من التزييف و التزوير الذي انقلبت فيه كل المعايير و القيم فأصبحت الانسانية لا انسانية و اللاانسانية هي الانسانية ( بلغة المقهورين أصبح الخير شرا و الشر خيرا). هذا الوضع الذي تم تزويره بهذه الشراسة و الحنكة ,اقتضى من صانعيه, لكي تتسم سياستهم بالنجاح,اعادة سبك المجتمعات البشرية بتقسيمها هذه المرة الي طبقتين نقيصتين على المستوى العالمي. ففي الأولي تم دمج كل الطبقات البورجوازية التي كانت متصارعة على المستوى العالمي ابان مرحلة الحرب الباردة في طبقة جديدة واحدة سميناها" بالبورجوازية الرأسمالية العالمية الكبرى" التي أصبحت تتكون من خمس فئات بورجوازية تتحدد مواقعها وفق قدراتها و نفوذها حيث الهيمنة للفئة البورجوازية الأمريكية و السيطرة للفئة الاروبية و اليابانية فالروسية فالعالم ثالثية. مقابلها نجد تشكيل طبقة أخرى جديدة سميناها" بالطبقة المقهورة العالمية الكبرى"التي تتكون من باقي المكونات اليشرية التي لم يعد المؤشر المادي ولا الوجودي بمثابة مؤشر على الاختلاف بينها؛انها، بلغة هيدجر، فئة البهائم الصالحة للاشتغال فقط.هذا الوضع الجديد للعالم تم تزويره بالعمل على نشر مفاهيم تمويهية كالرفاهية و الديموقراطية والتضامن و التسامح وخلو المجتمعات العالمية من التواجد الطبقي وأن خلاف كل ذلك يعنى الديكتاتورية و الاستبداد اللذين يجب محاربتهما معتمدين في ذلك قوة تأثير وسائل الاعلام والتربية والتعليم مركزين على مفاهيم حقوق الانسان و المواطنة التي هي الشكل الجديد للامبريالية المسماة بالعولمة.لا أحد يشك في كون أن هذه المفاهيم هي بمثابة مطلب انساني عالمي نبيل يؤشر على تقدم المجتمع البشرى؛ الا أن دلالة المفاهيم تلك التي صاغها النظام الرأسمالي هي بالكاد شرعنة الاستغلال اللامشروع لطبقة المقهورين العالمية الكبرى؛ ومعلوم أن الاستغلال اللامشروع للطبقة تلك هو بمثابة أهم ثوابت هدا النظام الذي يعتبر زواله بمثابة أزمة و زوال النظام الرأسمالي ذاته؛لذلك أخد الاستغلال اليوم أشكالا مؤدبة حيث نجدها جد وحشية في حقيقتها و مقبولة في ظاهرها متكلمة لغة الانسنة والمساواة في الحقوق وهى كلها ،كما سبق أن قلنا،اللغة الجديدة للامبريالية في شكلها العولمي .انها مفاهيم لا تختلف الا من حيث المبنى لتكون متفقة من حيث المعنى، تختلف في كيفية التحبيب و التجميل الذي يجعلها مقبولة و تتقاطع حول المعنى الخفي الذي هو العمل على تجدير و ضمان سيادة شروط مشروعية الاستغلال . هده الاستراتيجية الرأسمالية تمكنت من أدلجة جزء كبير ومثير للانتباه من المفكرين في مختلف القطاعات خصوصا منهم اللدين كانوا بالأمس القريب أعداء النظام الرأسمالي فتمكنت بذلك من إحلال واقع وهمي محل الواقع الحقيقي الذي تكفلت النخبة السابقة الذكر بالدفاع عن صحته فأصبح الحجاب واضحا بين رؤية الطبقة المقهورة العالمية الكبرى وحقيقة الواقع داك ؛هدا السلوك أفرز لنا عقلية تتميز باللامبالاة و اللامسؤولية،حتى تجاه داتها فأصبح الظلم والموت والسلب والاستعمار والتجريم والاعدام وقائع سلموا بمشروعيتها وديموقراطيتها بل و ضرورة حصولها .لقد أصبح التكالب والخيانة وخدمة مصالح الاستعمار فى أشكاله الجديدة وقائع للافتخار والتباهي بعد ما كانت بمثابة جرائم يعاقب عليها مقترفوها وتحاربها مختلف القيم الانسانية . لدلك نرى كيف ان البورجوازية الرأسمالية العالمية الكبرى قد تمكنت من تعميق قبضتها على الطبقة المقهورة العالمية الكبرى التي انضمت نخبتها،و بشكل سريع و متدبدب أحيانا و خجول أحيانا وواضح أحيانا أخرى الي معسكر البورجوازية الرأسمالية العالمية الكبرى مدافعين عن منطقها وعقلانيتها و مشروعية سلوكاتها. اذا كان هدا هو وضع النخبة، فان وضع باقي مكونات الطبقة المقهورة العالمية الكبرى هو ،فى مجمله،أكثر استيلابا واستعدادا للتسليع و التشييء ؛ ولنا فى عالمنا العربى خير مثال نجده لدى مختلف التيارات اللبرالية ومجمل التيارات القومية والقومجية وعدد من الاشتراكيين الموضويين ومجمل ان لم نقل كل التيارات الاسلامية التي أنشأها ووجهها ودربها ومولها النظام الرأسمالي خصوصا الامريكي منه .هده الاستراجية الامريكية الراهنة-وكدا الاروبية_ في اعادة هيكلة الاقتصاد وما أفرزه من أزمات أقربها الازمة المالية التي يعطى ثمن تجاوزها اليوم الطبقة المقهورة العالمية الكبرى التي حدد معنى وجودها كما قلنا في الاشتغال والاستهلاك السلبي والقابلية الشبه مطلقة للاستغلال؛ اعادة الهيكلة تلك اقتضت،وبالضرورة، اعادة التقسيم الطبقي على المستوى العالمي بين طبقة أصبحت لها مشروعية الاستغلال بشكل أكثر شراسة وبأسلوب مؤدب سمته بالديموقراطية وحقوق الانسان، وفى المقابل طبقة مقهورة اعتبرت بمثابة بهائم مخلوقةللانتاج فقط. وبالمجمل فالاستراتيجية الرأسمالية وخاصة منها الامريكية عملت على خلق شروط اظهار العالم بمظهر ليس هو حقيقته ،عالم أصبح يؤمن في مجمله بأن الوهم هو الحقيقة وأن الحقيقة ماهي إلا الوهم. هذا الوضع المتوحش إذن، وفي إطار هذه التوضيحات، يقتضي طرح والتفكير في أشكال التجاوز التي لم يعد إيقاع سرعة زمن التوحش يسمح بتأجيلها أو التعامل معها بشكل غير جدي ومسؤول. وهنا لابد من البحث عن طرح فلسفة بديلة لأسس هذا النظام الذي يلعب فيه الاقتصاد دور الهيمنة والسياسة دور السيطرة؛ انه الاقتصاد المسمي اليوم"بالاقتصاد المرن" والسياسة المسماة اليوم"بالديمقراطية وحقوق الإنسان" اللتان تعاديان مبادئ الحاجيات المشتركة والتدبير المشترك والمحاسبة المشتركة والملكية المشتركة. انه التصور الفلسفي البديل للبنية الاجتماعية تلك الذي هو البديل الطبيعي والمنطقي والتاريخي للبناء الصحيح للبنيات المجتمعية. إنها الفلسفة التي تؤمن بأن أساس الوجود، مهما اختلفت الجنسيات والأعراف والألوان والأديان والأوطان والقارات هو المساواة والعدالة والحرية المسؤولة في بناء وتنفيذ مختلف البرامج وكذا متابعة الانجاز. قد تختلف أساليب تحقيق ذلك وهو منطق الوجود، إلا أن البناء ذاك يجب أن تحكمه قاعدة اعتبار المصلحة الإنسانية علي مختلف المستويات المحلية منها والقومية والإقليمية والعالمية. انه البديل الفلسفي الذي لايمكن أن ينجح إلا إذا تم تأسيسه وفق نهج التدبير الجماعي الواعي بمسؤولياته من أصغر الوحدات-المحلية- إلي أوسعها-العالمية-. وفي هدا لاتجاه لا بد كذلك من طرح واستحضار ضرورة إعادة التأسيس الجذري للمؤسسات الدولية من قبيل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية ووضعهم تحت الرقابة والمحاسبة المسؤولة وبالتالي تحرير الحكومات القومية من هيمنة المؤسسات تلك .فاشتغال المؤسسات تلك يجب أن لايستمر في سرية تامة لايعلمها إلا الحكومات الرسمية بقدر ما يجب أن يصبح اشتغالها محددا ومنظما ومراقبا ومسؤولا أمام هيأت ذات تشكيل نوعي حيث أن اتخاذ القرارات وصياغتها لم يعد ولم يبق سلوكا فوقيا وطبقيا بقدر ما يصبح سلوكا جماعيا وخاضعا للإرادة المشتركة والمسؤولية المشتركة والمحاسبة المشتركة .هذه توضيحات لابد منها لامكان فهم الاحداث والظواهر المتلاحقة والمتسارعة اللاانسانية التي أصبح عالم نهاية الالفية الثانية وبداية الالفية الثالثة مسرحا لها .لدا فنحن أمام وضع يتطلب العمل على تعريته اقتصاديا وسياسيا وأيديولوجيا في اتجاه المساهمة في الرفع من قيمة الانسان وخدمة كينونته.
محمد بوجنالمفكر مغربي
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire