لا شك أن نهاية القرن العشرين و بداية القرن الواحد و العشرين تتميز بكونها مرحلة انقلابات كثيرة بنيويا: فعلى المستوى السياسي عرف انهيار المنظومة الاشتراكية لنصبح أمام القطبية الواحدة المتمثلة في هيمنة المنظومة السياسية الرأسمالية المتوحشة المسماة "بالعولمة" و على المستوى الاقتصادي عرفت قوى و أدوات الإنتاج تطورا هائلا: فالابتكارات تنامت و القوى تأهلت أكثر إلا أن استثمار ذلك من طرف الرأسمالية المتوحشة قد تم بشكل يمس بكرامة الإنسانية ؛و على المستوى الاجتماعي أصبحنا و بالمكشوف أمام الداروينية الاجتماعية البقاء للأقوى كقانون اكتسى صبغة المشروعية و الاعتبار الأخلاقي في عصرنا الحالي ,و على المستوى البيولوجي أصبحت هناك قدرة على التأثير سلبا و إيجابا في هندسة الكائن البشري لتقوية جنس أو طرف اجتماعي معين و إلحاق الضعف بأجناس و أطراف اجتماعية أخرى؛ و على المستوى الفيزيائي تمكنت الرأسمالية المتوحشة من التحكم في طبيعة الذرة و ضبط القوانين المتحكمة فيها و قواعد تركيبها أو سبكها و كذا إيقاع حركتها و احتمالات مواقعها قصد خدمة جنس أو طرف مجتمعي معين و ترهيب أجناس أو أطراف مجتمعية أخرى، بل و الفتك بها. هذا هو منطق النظام الرأسمالي الحالي أو ما يسمى بالعولمة ،نظام يتميز بعنف الصراع، صراع أخد أشكالا ليست أشكاله الحقيقية، و تحدد وجوده في مجالات ليست مجالاته الحقيقية ؛ لذا غلف هذا الصراع اللاإنساني بأغلفة سماها أحيانا بالتضامن و أحيانا محاربة اللإستبداد و الديكتاتورية و أحيانا أخرى باسم الدفاع عن مبادئ الإنسانية و نشر الديمقراطية... إلخ.
انطلاقا من المعطيات السابقة الذكر، نرى أن هذه
التغيرات، تغيرات القرن الواحد و العشرين لا يمكن فهمها و استيعابها بالشكل الموضوعي و المسؤول إلا باستحضار جدلية الأدوات و المناهج العلمية بمعنى أن الفهم المطلوب لدينامية النظام الرأسمالي في شكله الحالي المتوحش يتعذر بدون تجديد و تحديد شكل و مضمون الجهاز المفاهيمي الذي له من القدرة الموضوعية ما يمكنه من كشف و إعادة صياغة القوانين المتحكمة في المجتمعات البشرية على مختلف مستوياتها. و عليه، فإن الفهم الصحيح، يقتضي، و بالضرورة، استحضار مفهوم نمط الإنتاج الرأسمالي الذي ازدادت شراسته اليوم.وهذا يقتضي، و بالضرورة، استحضار مفهوم الصراع الطبقي : فالقول بأن المجتمعات البشرية اليوم، كما تذهب إلى ذلك مجمل الأدبيات المعاصرة، هي مجتمعات لم يعد فيها للمفهوم الطبقي معنى هو قول مخلف ومشوه للواقع الفعلي لهذه المجتمعات الذي هو بالكاد، واقع طبقي حدده نمط الإنتاج الرأسمالي المتوحش الراهن في أشكال اختلفت عن الأشكال السابقة لتتصدد في شكل طبقتين نقيضتين جدليتي الشكل والمضمون : البورجوازية الرأسمالية العالمية الكبرى التي أصبحت تتكون من فئة مهيمنة هي البورجوازية الأمريكية، و فئات مسيطرة هي الفئات البورجوازية الأوربية و اليابانية و فئة وسيطة هي البورجوازية الروسية و فئة ذكية هي البورجوازية الكاميرادورية ؛ و في المقابل هناك الطبقة النقيض، طبقة المقهورين العالمية الكبرى التي تشكلت مكوناتها من كل ما تبقى من طبقات و فئات القرن العشرين. و هي طبقة واحدة رغم التباين الشكلي و النسبي بينها، طبقة تجمع بينها متغيرات الفقر و التهميش و بيع قوة العمل العضلي و الفكري على السواء وفق ما يرضي الطرف الطبقي الأول. هكذا يمكننا القول بأن كل التغيرات التي يعرفها الوضع العالمي الراهن من مصادر تمويل المشاريع و أصول الأموال و تغير أماكن الشغل و التطور التكنولوجي و المعلومياتي و التقلب المتزايد من عدد العمال عضليا و فكريا و ما استوجبه من إعادة في التخصصات و المهارات...الخ ، كل ذلك لم يحرر المجتمعات البشرية للقرن الواحد و العشرين من الوجود الطبقي، بل على العكس من ذلك سار في اتجاه الجرأة الداعية لتعميق وجوده و الزيادة من تفاحش ذلك.
استكمالا للتحديد المفاهيمي،تعتبر الدولة اليوم بمختلف مؤسساتها،جهازا أصبح يخضع لنفس التغيرات التي فرضها نمط الإنتاج الرأسمالي في شكله الحالي المتوحش،حيث أن وظيفتها الحالية تحددت في الإشراف على تنفيذ القرارات و التوصيات الصادرة عن المركز الرأسمالي المتوحش بقيادة البورجوازية الرأسمالية العالمية الكبرى.
إن كل هذه التغيرات و التقلبات المفاجئة و السريعة و المتسارعة جعلت عددا كبيرا من رجالات السياسة و الفكر اليوم يصابون بالحيرة و التردد و التسرع في إصدار الأحكام المتناقضة هنا و هناك و الدعوة العلنية لفكرة موت الطبقة و هم في ذلك يبرزون عدم قدرتهم على استيعاب و متابعة الضرورات الداخلية لنمط الإنتاج الرأسمالي المتوحش،بل و استسلامهم لتأثيرات و إكراهات نمط الإنتاج هذا الذين هم بالكاد ضحية استراتيجيته।
محمد بوجنال
مفكر مغربي
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire