vendredi 29 juillet 2011

شخصية جحا وواقع الكينونة العربية

تعتبر العلاقات المجتمعية عصر الدعوة المحمدية علاقات تعتمد وتحتكم العمل المباشر والنقاش الاجتماعي واتحاد القرار الجماعي وتحمل المسؤولية الجماعية ودلك بعد هزيمة النظام الإنتاجي العبودي دون انقراضه. إلا أن بوادر نشوء مجتمع بهده الصفات ما لبث أن اختفي لصالح ظهور نظام إنتاجي إقطاعي خصوصا مع ظهور المرحلة الأموية حيث حل الاستبداد محل الإدارة الجماعية فأصبحنا أمام مذاهب فقهية متصارعة وخلافات حول طبيعة ومفاهيم الخلافة وسيطرة على الأراضي الزراعية...الخ وهي سلوكات تعتبر جزء لا يتجزأ من النظام الإنتاجي داك. فمند هده الفترة إلى عصر العولمة والمجتمعات العربية –الإسلامية حبيسة حكم العائلات والقبائل واستثمار الدين الإسلامي وتحويله من نص مقدس إلى نصوص أيديولوجية تتكلم عن وقائع وهمية وجميلة في الوقت الدية يعيش فيه المجتمع واقعا قاسيا يحدد حدته النظام الإنتاجي المهيمن وكدا الأنماط الأخرى المصاحبة له. فهدا الوضع أصبح جزء لا يتجزأ من مكونات العقل العربي- الإسلامي.

من داخل وضع هده المجتمعات العربية –الإسلامية ظهرت لنا شخصية بارزة أطلق عليها اسم "جحا" الذي يتميز بمميزات تصفه تارة بنصف الحكيم وتارة أخرى بنصف المعتوه وتارة ثالثة بكونه الشخصية التي تتكلم فيما لا يعنيها وتارة رابعة الشخصية التي تعني ما تقول وهي شخصية استثمرت مواقفها عصور متتالية نظرا لمصداقية عموميتها التجريدية.

فبالرجوع إلى نوادر ومنطوقات شخصية جحا، يمكننا الجزم بأنها ليست في حقيقتها نكتا للتسلية والترفيه بقدر ما هي تعرية لواقع تتحمل مسؤوليته إدارة عربية- إسلامية تثير الضحك؛ إنها نوادر تختلف عن النوادر الشائعة في مجتمعاتنا عن الحموات والخرس والبخلاء وفاقدي البصر...الخ؛ كما أنها لاتتناول المواطن العربي الإسلامي كمادة للسخرية والاحتقار،بل هي نوادر تتوجه بالنقد اللاذع والعنيف لطبيعة ممارسات الإدارة التي هي بالكاد مختلف أجهزة الدولة من حكومة وقضاء وفتاوى الفقهاء والأمن والبطش العسكري. ولا نعتقد أن أحدا سيختلف معنا إدا قلنا أن كل ما قاله جحا قالته وتقوله أغلبية المجتمع العربي- الإسلامي لكن في السر وداخل منازل مغلقة كإنكار مشروعية الخليفة وفساد الجهاز القضائي وأدلجة فتاوى الفقهاء...الخ؛ وقد كانت شخصية جحا تنقل هده المواقف بالواضح إلى مجمل الناس كأنها عبارة عن إذاعة يومية. وإليك بعض الحكايات:

كان جحا عند القاضي يحدثه في بعض شؤونه إذ بشرطي أحضر إلى القاضي رجلين وجد بينهما في الطريق أقدارا ممنوعة، وقال كل منهما أن الآخر هو المطالب بإزالتها لأنه هو الذي وضعها في الطريق. أراد القاضي أن يسخر من جحا لأنه يدعي العلم والمعرفة. فأحال إليه القضية ويقضي فيها بين الرجلين. قبل جحا دلك، وسأل الشرطي:" هل كانت الأقدار أقرب إلى دار هدا الرجل أو داك؟" فأجابه الشرطي بأنها كانت في الوسط بين الدارين. وإذ داك قال جحا:"أدن يزيلها مولانا القاضي، لأنها في الطريق العام، ومولانا القاضي هو المسئول عن المدينة".

فالحكاية هده تسكن تصور كل مواطن عربي-إسلامي غاضب حيث تحميل القضاء الشرعي مسؤولية ما يلحق من ظلم وتظلم وأدى بالمواطنين وما تعرفه شوارع مدنهم وقراهم من أوساخ وقدرات وإهمال، وكل دلك يوجد ويحدث ويقع تحت مسؤولية إدارة تتميز بالقمع والاستبداد بدل العمل الصالح والبناء المنتج. واليوم؟

وفي حكاية أخرى:

عرض رجل على جحا رسالة ليقرأها له، فاعتذر بمبرر رداءة الخط، لأنه لم يكن يعرف القراءة. فسأله صاحب الرسالة: "لمادا إذن تضع هده العمامة على رأسك، كأنها الرحى؟" فخلع جحا عمامته وقال له:" دونك والعمامة، فاسألها،فإنها صاحبة العلم اليد تبتغيه".

وهدا له دلالة في مجتمع يعاني من الخلط بين كلمتي" العلم" و"الفقه" لدلك تمت تسمية أصحاب الدراسات الفقهية ب"العلماء". وتقصد شخصية جحا يهدا أن الفقه بمعزل عن موقف الجماعة وشرعها لا يمكنه فهم واقع المواطن العربي- الإسلامي المفعم بالمشاكل المختلفة لسبب بسيط وهو أن هدا الفقه ليس علما، بل كل ما هنالك أنه بديل شكلي له، يتنكر وراء عمامة ضخمة؛ فهو الدية أعطى التقاليد صفة القداسة كتحجيب المرأة،الطاعة لأولي الأمر...الخ ولعب في تجدير دلك دورا هاما؛ وبهدنا تمكن الفقه داك من محو دور ومشروعية الأغلبية التي أصبحت تتقبله على أنه هو الحقيقة. فللرد على هدا الوضع اختار جحا أن يلعب دور الفقيه الجاهل متبنيا نهج أسلوب النقد السهل والممتع وفي متناول ومستوى الجميع دون أن يختلق معركة مع الفقهاء، مثل ما فعل الحلاج أنه لم يخض معهم في حوارات أكاديمية حول الفقه الإسلامي بقدر ما أبرز تحديه لهم في مجال تطبيق الإسلام إداريا. وبفعله العملي هدا تمكن جحا من تعرية تحالف المؤسسة الدينية مع الإقطاع مبرزا أن الفقيه كائن أسندت له مهمة ترويض الوعي العربي-الإسلامي. واليوم؟

وفي حكاية أخرى:

حمل جحا إوزة مشوية إلى أمير حلب، وهو في الطريق غلبه الجوع، فأكل إحدى رجليها في الطريق، وعندما سأله الأمير عنها أخبره أن الإوز كله، خلقه الله برجل واحدة في حلب. ثم أشار إلى سرب الإوز في حديقة الأمير وكان الإوز قائما على رجل واحدة كعادته وقت الراحة. فنادي الأمير جنديا من حرسه وأمره بالهجوم على سرب الإوز بعصاه. فما كاد يفعل، حتى أسرع الإوز يجري على رجليه. فقال الأمير لجحا: "هل رأيت الآن أن الإوز في حلب خلقه الله برجلين، وليس بواحدة؟" فأجابه جحا:" مهلا، أيها الأمير، فلو هجم حارسك على إنسان بهده العصا، لجرى الإنسان نفسه علي أربع".

فجحا هنا يقوم بتوضيح فهنا يريد جحا توضيح أن الجندي صاحب العصا وحارس الأمير لا يطارد الإوز في حقيقة الأمر، بقدر ما أنه يطارد عامة الناس، ولا يقوم بتغيير طبيعة سلوك الطيور، بقدر ما أنه يريد تغيير طبيعة سلوك عامة الناس ودللك بقمعهم وقهرهم بالقوة والسلاح وهضم الحقوق،حتى الطبيعية منها كالجوع. والقول أن جحا جاع في الطريق وأكل رجل إوزته يعني أنه يعيش بين ووسط الكثير من الجائعين. واليوم؟

هكذا أدن نستنتج أن نوادر جحا،كما سبق القول في البداية، ليست نكتا من أجل الترفيه عن النفس بشكل مطلق، بل هي رسائل سياسية واقتصادية واجتماعية ومعرفية تتداول بين عامة الناس على لسان نموذج واحد يمثلهم جميعا على السواء وهو نموذج شخصية جحا التي تتميز بالمميزات التالية:

الميزة الأولى أن جحا لايهتم بالصراعات بين مذاهب الفقه. فلقد ساد هدا المجال صراع بين فقهاء الظاهر وفقهاء الباطن فكفر الفريق الأول الفريق الثاني لأنه لم يؤمن بالظاهر، وكفر الفريق الثاني الفريق الأول لأنه لم يؤمن بالباطن معتمدين منطق أرسطو القائل:"ا" هو"ا" وغير دلك ليس "ا".أما بالنسبة لجحا فالمشكلة تحل نفسها بنفسها دون تعقيدات فتجنب الخوض في مبدأي الظاهر والباطن وتركهما يتشاجران بشكل مضحك أمام الناس ورد على دلك النوع من الصراعات بأشكال أخرى. وها بعض الأمثلة:ضاع حماره داوت مرة، واتصل به الشامتون لينقلوا له هدا الخبر المؤلم فقال لهم:"الحمد لله،أنني لم أكن فوق الحمار". وللتوضيح فالحمار رمز صوفي للشهوات؛ وجحا هنا ضدا على المنطق الأرسطي، يقول أن الإنسان الذي أضاع شهواته ليس إنسانا ضائعا وهي سخرية من المنطق الأرسطي الذي يتبناه الفقه الإسلامي؛ فهدا المنطق يقول:إدا ضاع جحا ضاع الحمار متناسيا أن الحمار ضاع وجحا قد وجد نفسه لأنه تخلص من شهواته ونزل طواعية من فوق ظهر الحمار. وهنا يريد جحا إظهار قدرة المنطق على تبرير الكذب بدون أن يعي الناس دلك. فالمواطن العربي –الإسلامي يصدق أن المستبد السجين الشهوات هو رجل عادل شرعا ومشروعية رغم أن سلوك المستبد يدل علي فساد هدا التعليل نظرا للتمكن من إفساد وعي المواطن نفسه الدية لئيمكن أن يستقيم إلا بإعادة إعطاء الجماعة سلطتها ومشروعيتها. وهده هي الميزة الأولى التي يؤمن بها جحا.

الميزة الثانية: أنه المواطن الذي يعيش باستمرار تحت رحمة المستبد. هدا الأخير الذي يستغل اللغة كأداة لنقل الفكر. وتكدا نجد أن المستبد داك قد قام لغويا بترسيخ أنظمة إدارية في وعي المواطن العربي- الإسلامي معتمدا التخويف المستتر. ولمواجهة هده اللعبة، كان جحا بموقع شخصيته تحت رحمة رجل مستبد آخر بشكل متعمد ليوصل مفهوم الاستبداد إلى وعي المواطن العربي- الإسلامي.

الميزة الثالثة أنه المواطن الذي له دراية بتشريع الإسلام الجماعي ومعرفة تفاصيله كعلاقته بالعدل وكيفية تغيير المجتمع والناس وسبل تحرير الإدارة من سلطة النظام الإقطاعي.

الميزة الرابعة: أنه يمثل المواطن الأعزل الذي لايحمل السلاح ولا يفهم استخدامه واستعماله؛ وهجا يدل على أن الخليفة كان يجرد المواطنين من الأسلحة تجنبا لم لا تحمد عقباه.

الميزة الخامسة: أنه يمثل المواطن الخائف إلا أنه خوف لايمنعه من المطالبة بالتغيير. فجحا شخصية ذات مواقف صارمة ومطالب شجاعة للدفاع عن إقرار العمل الجماعي؛ وبما أن هدا المطلب طموح، فإن جحا يتحرك ويتنكر في ثياب المواطن الفقير والمغلوب على أمره.

إن جحا نصف الحكيم،نصف المعتوه، الذي يتدخل فيما لايعنيه، هو داك المواطن العربي- الإسلامي بالكاد الدية علمه العقل والشريعة قواعد وقوانين وقيما تنمو وتتطور بتطور العمل الجماعي وتندثر وتختفي باختفاء العمل الجماعي؛ وهو شخصية مقتنعة بأنها صاحبة حق شرعي ومشروع علمه إياه العقل والقرآن ولكن المستبد حرمه من هدا الحق باسم الشريعة نفسها، فأرغمه على العيش تحت رحمة القوة وأشكال الخوف والفقر. وتكدا يمكننا القول انه إدا كانت شخصية جحا قد اختفت من تاريخنا المعاصر، فليس مرد دلك إلى أنها لم تعد تمثل المواطن العربي-الإسلامي، بل إلى أن دلك راجع إلى كونها شخصية تتسم بالتجريد بمعناه الرياضي وهو المعنى الذي يجعل القضايا التي يدافع عنها هي قضايا العصور؛ لكن التحديد هو الذي يجعلها تأخذ أشكالا وممارسات مختلفة. ويهدا فجحا لا يستطيع أحد أن ينزله من فوق حماره، ولا أن ينزع عنه معتقداته العربية-الإسلامية وثيابه القديم والمتواضع دون أن يلحق الخلل بتوازن هده الشخصية التي لا تضحك على مآسي الناس ولا تصلح موضوعا لحكايات الكوميديين حول الحماة السمينة...الخ لأن هده مواد لا تحتاج من جحا بدل المجهود. فلقد صرف طاقته وجهده في تحريض الناس ضد المستبد والطاغية وفضح فساد قضاته وتجريد فقهائه من صفة العلم ونهج محاربته بشكل علاني بأداة هي لغة الناس أو الجماعة. وهدا الأسلوب لا يخلو منه عصر من العصور الموالية. لهدا السبب لم تقحم شخصية جحا داخل عصر الآلة أو المعلوميات ولا في حكايات حديثة ومعاصرة تضعه في سيارة أو راكبا القطار أو يبيع الحواسيب...الخ لأنه لا يؤمن على المستوي التجريدي الذي نصفه بالبناء إلا بحضارة واحدة يلزمنا بضرورة قيامها على الإدارة الجماعية التي سلبنا إياها المستبد؛ وبدلك فالواجب يقتضي منه أن يواجه هدا المستبد في السر وفي العلانية،مواجهة نختصر شكلها ومضمونها في التالي:

1- جحا مواطن "مطيته الحمار" ما دام الحصان هو مطية الجندي الذي هو في خدمة المستبد

2- جحا مواطن فقير مبتعد عن أهل الفطنة الدين هم في خدمة المستبد

جحا مواطن دو اطلاع رزين بالقانون والشرع الجماعي إلا أنه ليس قاضيا لأ ن القضاء والقضاة في خدمة المستبد

4- جحا مواطن يحمل العمامة فوق رأسه ويصدر الفتاوى في الشؤون الفقهية إلا أنه ليس فقيها لأن الفقه والفقهاء في خدمة المستبد

5- جحا مواطن أعزل، جرده المستبد من السلاح لكنه بقي يحارب بلسانه وعقله مؤمنا بأن النصر حليفه مهما طال الزمن

6- جحا يتكلم لغة واحدة وقضية واحدة قد تختلف في الشكل والحجم، لكن المهمة تبقى دائما واحدة وهي: أن لا يعترف بالمستبد وأن لا يتخلى عن نهج السخرية من مؤسساته القضائية والفقهية والأمنية والعسكرية.

بصفة عامة يمكننا القول على المستوى المنطقي أن الثقافة تنتج شخصيات ذات ردود فعل فعال مثل شخصية جحا. إلا أنه من المدهش أن الثقافة العربية-الإسلامية الحديثة لم تستطع أن تنتج أو تكتشف ما اكتشفه رجل أمي مثل جحا.

محمد بوجنال

مفكر مغربي

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire